تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 268 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 268

267

7- "وتحمل أثقالكم" الأثقال جمع ثقل، وهو متاع المسافر من طعام وغيره وسمي ثقلاً لأنه يثقل الإنسان حمله، وقيل المراد أبدانهم "إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس" أي لم تكونوا واصلين إليه لو لم يكن معهم إبل تحمل أثقالكم إلا بشق الأنفس لبعده عنكم، وعدم وجود ما يحمل ما لا بد لكم منه في السفر. وظاهره يتناول كل بلد بعيدة من غير تعيين، وقيل المراد بالبلد مكة، وقيل اليمن ومصر والشام لأنها متاجر العرب، وشق الأنفس: مشقتها. قرأ الجمهور بكسر الشين، وقرأ أبو جعفر بفتحها. قال الجوهري: والشق المشقة، ومنه قوله: "لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس" وحكى أبو عبيدة بفتح الشين، وهما بمعنى، ويجوز أن يكون المفتوح مصدراً من شققت عليه أشق شقاً، والمكسور بمعنى النصف، يقال أخذت شق الشاة وشقة الشاة، ويكون المعنى على هذا في الآية: لم تكونوا بالغيه إلا بذهاب نصب الأنفس من التعب، وقد امتن الله سبحانه على عباده بخلق الأنعام على العموم.
ثم خص الإبل بالذكر لما فيها من نعمة حمل الأثقال دون البقر والغنم، والاستثناء من أعم العام: أي لم تكونوا بالغيه بشيء من الأشياء إلا بشق الأنفس 8- "والخيل والبغال والحمير" بالنصب عطفاً على الأنعام: أي وخلق لكم هذه الثلاثة الأصناف، وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع فيها كلها، وسميت الخيل خيلاً لاختيالها في مشيها، وواحد الخيل خائل كضائن واحد الضأن، وقيل لا واحد له. ثم علل سبحانه خلق هذه الثلاثة الأنواع بقوله: "لتركبوها" وهذه العلة هي باعتبار معظم منافعها لأن الانتفاع بها في غير الركوب معلوم كالتحميل عليها "و" عطف "زينة" على محل "لتركبوها" لأنه في محل نصب على أنه علة لخلقها ولم يقل لتتزينوا بها حتى يطابق لتركبوها، لأن الركوب فعل المخاطبين، والزينة فعل الزائن وهو الخالق، والتحقيق فيه أن الركوب هو المعتبر في المقصود، بخلاف الزينة فإنه لا يلتفت إليه أهل الهمم العالية لأنه يورث العجب، فكأنه سبحانه قال: خلقتها لتركبوها فتدفعوا عن أنفسكم بواسطتها ضرر الإعياء والمشقة، وأما التزين بها فهو حاصل في نفس الأمر ولكنه غير مقصود بالذات. وقد استدل بهذه الآية القائلون بتحريم لحوم الخيل قائلين بأن التعليل بالركوب يدل على أنها مخلوقة لهذه المصلحة دون غيرها. قالوا: ويؤيد ذلك إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر وإخراجها عن الأنعام فيفيد ذلك اتحاد حكمها في تحريم الأكل. قالوا: ولو كان أكل الخيل جائزاً لكان ذكره والامتنان به أولى من ذكر الركوب، لأنه أعظم فائدة منه، وقد ذهب إلى هذا مالك وأبو حنيفة وأصحابهما والأوزاعي ومجاهد وأبو عبيد وغيرهم. وذهب الجمهور من الفقهاء والمحدثين وغيرهم إلى حل لحوم الخيل، ولا حجة لأهل القول الأول في التعليل بقوله "لتركبوها" لأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها لا ينافي غيره، ولا نسلم أن الأكل أكثر فائدة من الركوب حتى يذكر ويكون ذكره أقدم من ذكر الركوب، وأيضاً لو كانت هذه الآية تدل على تحريم الخيل لدلت على تحريم الحمر الأهلية، وحينئذ لا يكون ثم حاجة لتحديد التحريم لها عام خيبر، وقد قدمنا أن هذه السورة مكية. والحاصل أن الأدلة الصحيحة قد دلت على حل أكل لحوم الخيل، فلو سلمنا أن في هذه الآية متمسكاً للقائلين بالتحريم لكانت السنة المطهرة الثابتة رافعة لهذا الاحتمال، ودافعة لهذا الاستدلال، وقد أوضحنا هذه المسألة في مؤلفاتنا بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره "ويخلق ما لا تعلمون" أي يخلق ما لا يحبط علمكم به من المخلوقات غير ما قد عدده ها هنا، وقيل المراد من أنواع الحشرات والهوام في أسافل الأرض، وفي البحر مما لم يره البشر ولم يسمعوا به، وقيل هو ما أعد الله لعباده في الجنة وفي النار مما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولا خطر على قلب بشر، وقيل هو خلق السوس في النبات والدود في الفواكه، وقيل عين تحت العرش، وقيل نهر من النور، وقيل أرض بيضاء، ولا وجه للاقتصار في تفسير هذه الآية على نوع من هذه الأنواع، بل المراد أنه سبحانه يخلق ما لا يعلم به العباد، فيشمل كل شيء لا يحيط علمهم به، والتعبير هنا بلفظ المستقبل لاستحضار الصورة، لأنه سبحانه قد خلق ما لا يعلم به العباد.
9- "وعلى الله قصد السبيل" القصد مصدر بمعنى الفاعل، فالمعنى وعلى الله قصد السبيل: أي هداية قاصد الطريق المستقيم بموجب وعده المحتوم وتفضله الواسع، وقيل هو على حذف مضاف، والتقدير: وعلى الله بيان قصد السبيل، والسبيل: الإسلام، وبيانه بإرسال الرسل وإقامة الحجج والبراهين، والقصد في السبيل هو كونه موصلاً إلى المطلوب، فالمعنى: وعلى الله بيان الطريق الموصل إلى المطلوب "ومنها جائر" الضمير في "منها" راجع إلى السبيل بمعنى الطريق، لأنها تذكر وتؤنث، وقيل راجع إليها بتقدير مضاف: أي ومن جنس السبيل جائز مائل عن الحق عادل عنه، فلا يهتدي به، ومنه قول امرئ القيس: ومن الطريقة جائر وهدى قصد السبيل ومنه ذو دخل وقيل إن الطريق كناية عن صاحبها، والمعنى: ومنهم جائر عن سبيل الحق: أي عادل عنه، فلا يهتدي إليه قيل وهم أهل الأهواء المختلفة، وقيل أهل الملل الكفرية، وفي مصحف عبد الله " ومنها جائر " وكذا قرأ علي "ولو شاء لهداكم أجمعين" أي ولو شاء أن يهديكم جميعاً إلى الطريق الصحيح، والمنهج الحق لفعل ذلك، ولكنه لم يشأ، بل اقتضت مشيئته سبحانه إراءة الطريق والدلالة عليها: "وهديناه النجدين"، وأما الإيصال إليها بالفعل فذلك يستلزم أن لا يوجد في العباد كافر، ولا من يستحق النار من المسلمين، وقد اقتضت المشيئة الربانية أنه يكون البعض مؤمناً والبعض كافراً كما نطق بذلك القرآن في غير موضع. وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال "لما نزل أتى أمر الله ذعر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت "فلا تستعجلوه" فسكنوا". وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي بكر بن حفص قال لما نزلت "أتى أمر الله" قاموا، فنزلت "فلا تستعجلوه". وأخرج ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس "أتى أمر الله" قال: خروج محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال "لما نزلت هذه الآية "أتى أمر الله" قال رجال من المنافقين بعضهم لبعض إن هذا يزعم أن أمر الله أتى، فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا: ما نراه نزل شيء، فنزلت: "اقترب للناس حسابهم"، فقالوا: أن هذا يزعم مثلها أيضاً، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا: ما نراه نزل شيء، فنزلت "ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة" الآية". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: "أتى أمر الله" قال: الأحكام والحدود والفرائض. وأخرج هؤلاء عن ابن عباس في قوله: "ينزل الملائكة بالروح" قال: بالوحي. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقي عنه قال الروح: أمر من أمر الله وخلق من خلق الله، وصورهم على صورة بني آدم، وما ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد من الروح، ثم تلا "يوم يقوم الروح والملائكة صفاً". وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن "ينزل الملائكة بالروح" قال: القرآن. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لكم فيها دفء" قال: الثياب "ومنافع" قال: ما تنتفعون به من الأطعمة والأشربة. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: نسل كل دابة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "وتحمل أثقالكم إلى بلد" يعني مكة "لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس" قال: لو تكلفتموه لم تطيقوه إلا بجهد شديد. وقد ورد في حل أكل لحوم الخيل أحاديث منها في الصحيحين وغيرهما من حديث أسماء قالت "نحرنا فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه". وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة والترمذي وصححه والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن جابر قال "أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل، ونهانا عن لحوم الحمر الأهلية". وأخرج أبو داود نحوه من حديثه أيضاً، وهما على شرط مسلم. وثبت أيضاً في الصحيحين من حديث جابر قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في الخيل". وأما ما أخرجه أبو عبيد وأبو داود والنسائي من حديث خالد بن الوليد قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن لحوم الخيل والبغال والحمير"، ففي إسناده صالح بن يحيى بن أبي المقدام وفيه مقال. ولو فرضنا أن الحديث صحيح لم يقو على معارضة أحاديث الحل على أنه يكون أن هذا الحديث المصرح بالتحريم متقدم على يوم خيبر فيكون منسوخاً. وأخرج الخطيب وابن عساكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "ويخلق ما لا تعلمون" قال: البراذين. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن مما خلق الله أرضاً من لؤلؤة بيضاء ثم ساق من أوصافها ما يدل على أن الحديث موضوع، ثم قال في آخره فذلك قوله "ويخلق ما لا تعلمون"". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "وعلى الله قصد السبيل" يقول: على الله أن يبين الهدى والضلالة "ومنها جائر" قال السبل المتفرقة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وعلى الله قصد السبيل" قال: على الله بيان حلاله، وحرامه، وطاعته، ومعصيته "ومنها جائر" قال: من السبل ناكب عن الحق، قال: وفي قراءة ابن مسعود ومنكم جائر. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف عن علي أنه كان يقرأ هذه الآية ومنكم جائر.
لما استدل سبحانه على وجوده وكمال قدرته وبديع صنعته بعجائب أحوال الحيوانات أراد أن يذكر الاستدلال على المطلوب بغرائب أحوال النبات فقال: 10- "هو الذي أنزل من السماء" أي من جهة السماء، وهي السحاب "ماء" أي نوعاً من أنواع الماء، وهو المطر "لكم منه شراب" يجوز أن يتعلق لكم بأنزل أو هو خبر مقدم، وشراب مبتدأ مؤخر، والجملة صفة لما "ومنه" في محل نصب على الحال، والشراب اسم لما يشرب كالطعام لما يطعم، والمعنى: أن الماء النازل من السماء قسمان: قسم يشربه الناس، ومن جملته ماء الآبار والعيون، فإنه من المطر لقوله: "فسلكه ينابيع في الأرض" وقسم يحصل منه شجر ترعاه المواشي. قال الزجاج: كل ما ينبت من الأرض فهو شجر، لأن التركيب يدل على الاختلاط، ومنه تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم بالبعض، ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ وفيما له ساق. وقال ابن قتيبة: المراد من الشجر في الآية الكلأ، وقيل الشجر كل ما له ساق كقوله تعالى: "والنجم والشجر يسجدان" والعطف يقتضي التغاير، فلما كان النجم ما لا ساق له وجب أن يكون الشجر ما له ساق، وأجيب بأن عطف الجنس على النوع جائز "فيه تسيمون" أي في الشجر ترعون مواشيكم، يقال سامت السائمة تسوم سوماً رعت فهي سائمة، وأسمتها: أي أخرجتها إلى الرعي فأنا مسيم وهي مسامة وسائمة، وأصل السوم الإبعاد في المرعى. قال الزجاج: أخذ من السومة وهي العلامة، لأنها تؤثر في الأرض علامات برعيها.
2- "ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب" قرأ أبو بكر عن عاصم ننبت بالنون، وقرأ الباقون بالياء التحتية: أي ينبت الله لكم بذلك الماء الذي أنزله من السماء، وقدم الزرع لأنه أصل الأغذية التي يعيش بها الناس، وأتبعه بالزيتون لكونه فاكهة من وجه وإداماً من وجه لكثرة ما فيه من الدهن، وهو جمع زيتونة، ويقال للشجرة نفسها زيتونة، ثم ذكر النخيل لكونه غذاء وفاكهة وهو مع العنب أشرف الفواكه، وجمع الأعناب لاشتمالها على الأصناف المختلفة، ثم أشار إلى سائر الثمرات فقال: "ومن كل الثمرات" كما أجمل الحيوانات التي لم يذكرها فيما سبق بقوله: "ويخلق ما لا تعلمون"، وقرأ أبي بن كعب ينبت لكم به الزرع يرفع الزرع وما بعده "إن في ذلك" أي الإنزال والإنبات "لآية" عظيمة دالة على كمال القدرة والتفرد بالربوبية "لقوم يتفكرون" في مخلوقات الله ولا يهملون النظر في مصنوعاته.
12- "وسخر لكم الليل والنهار" معنى تسخيرهما للناس تصييرهما نافعين لهم بحسب ما تقتضيه مصالحهم وتستدعيه حاجاتهم، يتعاقبان دائماً كالعبد الطائع لسيده لا يخالف ما يأمره به ولا يخرج عن إرادته ولا يهمل السعي في نفعه، وكذا الكلام في تسخير الشمس والقمر والنجوم، فإنها تجري على نمط متحد يستدل بها العباد على مقادير الأوقات، ويهتدون بها ويعرفون أجزاء الزمان، ومعنى مسخرات مذللات. وقرأ ابن عامر وأهل الشام "والشمس والقمر والنجوم مسخرات" بالرفع على الابتداء والخبر. وقرأ الباقون بالنصب عطفاً على الليل والنهار، وقرأ حفص عن عاصم برفع النجوم على أنه مبتدأ وخبره مسخرات "بأمره" وعلى قراءة النصب في مسخرات يكن حالاً مؤكدة، لأن التسخير قد فهم من قوله "وسخر"، وقرأ حفص في رواية برفع مسخرات مع نصب ما قبله على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هي مسخرات "إن في ذلك" التسخير "لآيات لقوم يعقلون" أي يعملون عقولهم في هذه الآثار الدالة على وجود الصانع وتفرده وعدم وجود شريك له، وذكر الآيات لأن الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة، وجمعها ليطابق قوله مسخرات، وقيل: إن وجه الجمع هو أن كلاً من تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم آية في نفسها بخلاف ما تقدم من الإنبات فإنه آية واحدة، ولا يخلو كل هذا عن تكلف، والأولى أن يقال: إن هذه المواضع الثلاثة التي أفرد الآية في بعضها وجمعها في بعضها كل واحد منها يصلح للجمع باعتبار وللإفراد باعتبار، فلم يجرها على طريقة واحدة افتناناً وتنبيهاً على جواز الأمرين وحسن كل واحد منهما.
13- "وما ذرأ لكم في الأرض" أي خلق: يقال ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءاً: خلقهم: فهو ذارئ، ومنه الذرية، وهي نسل الثقلين، وقد تقدم تحقيق هذا، وهو معطوف على النجوم رفعاً ونصباً: أي وسخر لكم ما ذرأ في الأرض. فالمعنى: أنه سبحانه سخر سخر لهم تلك المخلوقات السماوية والمخلوقات الأرضية، وانتصاب مختلفاً ألوانه على الحال، وألوانه: هيئاته ومناظره، فإن ذرء هذه الأشياء على اختلاف الألوان والأشكال مع تساوي الكل في الطبيعة الجسمية آية عظيمة دالة على وجود الصانع سبحانه وتفرده "إن في ذلك" التسخير لهذه الأمور "لآية" واضحة "لقوم يذكرون" فإن من تذكر اعتبر، ومن اعتبر استدل على المطلوب، قيل وإنما خص المقام الأول بالتفكر لإمكان إيراد الشبهة المذكورة، وخص المقام الثاني بالعقل لذكره بعد إماطة الشبهة وإراحة العلة، فمن لم يعترف بعدها بالوحدانية فلا عقل له، وخص المقام الثالث بالتذكر لمزيد الدلالة، فمن شك بعد ذلك فلا حس له، وفي هذا من التكلف ما لا يخفى. والأولى أن يقال هنا كما قلنا فيما تقدم في إفراد الآية في البعض وجمعها في البعض الآخر، وبيانه أن كلاً من هذه المواضع الثلاثة يصلح لذكر التفكر ولذكر التعقل ولذكر التذكر لاعتبارات ظاهرة غير خفية، فكان في التعبير في كل موضع بواحد منها افتنان حسن لا يوجد في التعبير بواحد منها في جميع المواضع الثلاثة.
14- "وهو الذي سخر البحر" امتن الله سبحانه بتسخير البحر بإمكان الركوب عليه واستخراج ما فيه من صيد وجواهر، لكونه من جملة النعم التي أنعم الله بها على عباده مع ما فيه من الدلالة على وحدانية الرب سبحانه وكمال قدرته، وقد جمع الله سبحانه لعباده في هذا المقام بين التذكير لهم بآياته الأرضية والسماوية والبحرية، فأرشدهم إلى النظر والاستدلال بالآيات المتنوعة المختلفة الأمكنة إتماماً للحجة، وتكميلاً للإنذار، وتوضيحاً لمنازع الاستدلال، ومناطات البرهان، ومواضع النظر والاعتبار، ثم ذكر العلة في تسخير البحر فقال: "لتأكلوا منه لحماً طرياً" المراد به السمك، ووصفه بالطراوة للإشعار بلطافته، والإرشاد إلى المسارعة بأكله لكونه مما يفسد بسرعة "وتستخرجوا منه حلية تلبسونها" أي لؤلؤاً ومرجاناً كما في قوله سبحانه: "يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان" وظاهر قوله "تلبسونها" أنه يجوز للرجال أن يلبسوا اللؤلؤ والمرجان: أي يجعلونه حلية لهم كما يجوز للنساء، ولا حاجة لما تكلفه جماعة من المفسرين في تأويل قوله "تلبسونها" بقوله تلبسه نساؤهم، لأنهن من جملتهم، أو لكونهن يلبسنها لأجلهم، وليس في الشريعة المطهرة ما يقتضي منع الرجال من التحلي باللؤلؤ والمرجان ما لم يستعمله على صفة لا يستعمله عليها إلا النساء خاصة، فإن ذلك ممنوع من جهة كونه تشبهاً بهن، وقد ورد الشرع بمنعه لا من جهة كونه حلية لؤلؤ أو مرجان "وترى الفلك مواخر فيه" أي ترى السفن شواق للماء تدفعه بصدرها. ومخر السفينة: شقها الماء بصدرها. قال الجوهري: مخر السابح: إذا شق الماء بصدره، ومخر الأرض: شقها للزراعة، وقيل مواخر: جواري، وقيل معترضة، وقيل تذهب وتجيء، وقيل ملججة. قال ابن جرير: المخر في اللغة: صوت هبوب الريح، ولم يقيد بكونه في ماء "ولتبتغوا من فضله" معطوف على تستخرجوا، وما بينهما اعتراض، أو علة على محذوفة تقديره لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا، أو على تقدير فعل ذلك لتبتغوا: أي لتتجروا فيه فيحصل لكم الربح من فضل الله سبحانه "ولعلكم تشكرون" أي إذا وجدتم فضله عليكم وإحسانه إليكم اعترفتم بنعمته عليكم فشكرتم ذلك باللسان والأركان. قيل ولعل وجه تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر من حيث أن فيها قطعاً لمسافة طويلة مع أحمال ثقيلة من غير مزاولة أسباب السفر، بل من غير حركة أصلاً مع أنها في تضاعيف المهالك، ويمكن أن يضم إلى ما ذكر من قطع المسافة على الصفة المذكورة ما اشتمل عليه البحر من كون فيه أطيب مأكول وأنفس ملبوس وكثرة النعم مع نفاستها وحسن موقعها من أعظم الأسباب المستدعية للشكر الموجبة له.