تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 306 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 306

305

قوله: 12- "يا يحيى" ها هنا حذف، وتقديره: وقال الله للمولود يا يحيى، أو فولد له مولولد فبلغ المبلغ الذي يجوز أن يخاطب فيه، فقلنا له يا يحيى. وقال الزجاج: المعنى فوهبنا له وقلنا له يا يحيى. والمراد بالكتاب التوراة لأن المعهود حينئذ، ويحتمل أن يكون كتاباً مختصاً به وإن كنا لا نعرفه الآن، والمراد بالأخذ إما الأخذ الحسي أو الأخذ من حيث المعنى، وهو القيام بما فيه كما ينبغي، وذلك بتحصيل ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمور به، والإحجام عن المنهي عنه، ثم أكده بقوله: "بقوة" أي بجد وعزيمة واجتهاد "وآتيناه الحكم صبياً" المراد بالحكم الحكمة، وهي الفهم للكتاب الذي أمر يأخذه وفهم الأحكام الدينية، وقيل هي العلم وحفظه والعمل به، وقيل النبوة، وقيل العقل، ولا مانع من أن يكون الحكم صالحاً لحمله على جميع ما ذكر. قيل كان يحيى عند هذا الخطاب له ابن سنتين، وقيل ابن ثلاث.
13- "وحناناً من لدناً" معطوف على الحكم. قال جمهور المفسرين: الحنان الرحمة والشفقة والعطف والمحبة، وأصله توقان النفس، مأخوذ من حنين الناقة على ولدها. قال أبو عبيدة: تقول حنانك يا رب وحنانيك يا رب بمعنى واحد، يريد رحمتك. قال طرفة: أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض وقال امرؤ القيس: ويمنحها بنو سلخ بن بكر معيزهم حنانك ذا الحنان قال ابن الأعرابي: الحنان مشدداً من صفات الله عز وجل، والحنان مخففاً: العطف والرحمة، والحنان الرزق والبركة. قال ابن عطية: والحنان في كلام العرب أيضاً ما عظم من الأمور في ذات الله، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل، والله لئن قتلتم هذا العبد لأتخذن قبره حناناً، يعني بلالاً، لما مر به، وهو يعذب، وقيل إن القائل لذلك هو ورقة بن نوفل. قال الأزهري: معنى ذلك لأترحمن عليه، ولأتعطفن عليه لأنه من أهل الجنة، ومثله قول الحطيئة: تحنن علي هداك المليك فإن لكل مقام مقالا ومعنى "من لدنا" من جنابنا، قيل ويجوز أن يكون المعنى أعطيناه رحمة من لدنا كائنة في قلبه يتحنن بها على الناس، ومنهم أبواه وقرابته حتى يخلصهم من الكفر "وزكاة" معطوف على من قبله، والزكاة التطهير والبركة والتنمية والبر: أي جعلناه مباركاً للناس يهديهم إلى الخير، وقيل زكيناه بحسن الثناء عليه كتزكية الشهود، وقيل صدقة تصدقنا به على أبويه قاله ابن قتيبة "وكان تقياً" أي متجنباً لمعاصي الله مطيعاً له. وقد روي أنه لم يعمل معصية قط.
14- "وبراً بوالديه" معطوف على تقياً، البر هنا بمعنى البار، فعل بمعنى فاعل، والمعنى: لطيفاً بهما محسناً إليهما "ولم يكن جباراً عصياً" أي لم يكن متكبراً ولا عاصياً لوالديه أو لربه، وهذا وصف له عليه السلام بلين الجانب وخفض الجناح.
15- "وسلام عليه" قال ابن جرير وغيره: معناه أمان عليه من الله. قال ابن عطية: والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة، فهي أشرف وأنبه من الأمان، لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه، وهو أقل درجاته، وإنما الشرف في أن يسلم الله عليه، ومعنى "يوم ولد" أنه أمن من الشيطان وغيره في ذلك اليوم، أو أن الله حياه في ذلك اليوم، وهكذا معنى "يوم يموت" وهكذا معنى "يوم يبعث حياً" قيل أوحش ما يكون الإنسان في ثلاثة مواطن: يوم ولد لأنه خرج مما كان فيه، ويوم يموت لأنه يرى قوماً لا يكن قد عرفهم وأحكامها ليس له بها عهد، ويوم يبعث لأنه يرى هول يوم القيامة. فخص الله سبحانه يحيى بالكرامة والسلامة في المواطن الثلاثة. وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "يا يحيى خذ الكتاب بقوة" قال: بجد "وآتيناه الحكم صبياً" قال: الفهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: يقول اعمل بما فيه من فرائض. وأخرج ابن المنذر عن مالك بن دينار قال: اللب. وأخرج أبو نعيم والديلمي وابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "وآتيناه الحكم صبياً" قال: أعطي الفهم والعبادة وهو ابن سبع سنين. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم عن قتادة: بدلة وهو ابن ثلاث سنين. وأخرج الحاكم في تاريخه من طريق نهشل عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الغلمان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب، فقال يحيى: ما للعب خلقنا، اذهبوا نصلي فهو قول الله "وآتيناه الحكم صبياً"". وأخرج ابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتي الحكم صبياً". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفاً. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله: "وحناناً" قال: لا أدري ما هو إلا أني أظنه يعطف على عبده بالرحمة، وقد فسرها جماعة من السلف بالرحمة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وزكاة" قال: بركة، وفي قوله: "وكان تقياً" قال: طهر فلم يعمل بذنب.
قوله 16- "واذكر في الكتاب مريم" هذا شروع في ابتداء خلق عيسى، والمراد بالكتاب هذه السورة: أي اذكر يا محمد للناس في هذه السورة قصة مريم، ويجوز أن يراد بالكتاب جنس القرآن، وهذه السورة منه، ولما كان الذكر لا يتعلق بالأعيان احتيج إلى تقدير مضاف يتعلق به الذكر، وهو قصة مريم، أو خبر مريم "إذ انتبذت" العامل في الظرف هو ذلك المضاف المقدر، ويجوز أن يجعل بدل اشتمال من مريم، لأن الأزمان مشتملة على ما فيها، ويكون المراد بمريم خبرها، وفي هذا الإبدال دلالة على تفخيم شأن الوقت لوقوع قصتها العجيبة فيه، والنبذ الطرح والرمي. قال الله سبحانه: "فنبذوه وراء ظهورهم" والمعنى: أنها تنحت وتباعدت. وقال ابن قتيبة: اعتزلت، وقيل انفردت، والمعاني متقاربة. واختلفوا في سبب انتباذها، فقيل لأجل أن تعبد الله سبحانه، وقيل لتطهر من حيضها، و"من أهلها" متعلق بانتبذت، وانتصاب "مكاناً شرقياً" على المفعولية للفعل المذكور: أي مكاناً من جانب الشرق، والشرق بسكون الراء: المكان الذي تشرق فيه الشمس، وإنما خص المكان بالشرق لأنهم كانوا يعظمون جهة الشرق لأنها مطلع الأنوار، حكى معناه ابن جرير. وقد اختلف الناس في نبوة مريم، فقيل إنها نبية بمجرد هذا الإرسال إليها ومخاطبتها للملك، وقيل لم تكن نبية، لأنه إنما كلمها الملك وهو على مثال البشر، وقد تقدم الكلام في هذه في آل عمران.
17- "فاتخذت من دونهم حجاباً" أي اتخذت من دون أهلها حجاباً يسترها عنهم لئلا يروها حال العبادة، أو حال التطهر من الحيض. والحجاب الستر والحاجز "فأرسلنا إليها روحنا" هو جبريل عليه السلام، وقيل هو روح عيسى، لأن الله سبحانه خلق الأرواح قبل الأجساد، والأول أولى لقوله: "فتمثل لها بشراً سوياً" أي تمثل جبريل لها بشراً مستوي الخلق لم يفقد من نعوت بني آدم شيئاً، قيل ووجه تمثل الملك لها بشراً أنها لا تطيق أن تنظر إلى الملك وهو على صورته.
فلما رأته في صورة إنسان حسن كامل الخلق قد خرق عليها الحجاب ظنت أنه يريدها بسوء، فاستعاذت بالله منه، و 18- "قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً" أي ممن يتقي الله ويخافه، وقيل إن تقياً اسم رجل صالح، فتعوذت منه تعجباً، وقيل إن اسم رجل فاجر معروف في ذلك الوقت، والأول أولى. وجواب الشرط محذوف: أي فلا تتعرض لي.
19- "قال إنما أنا رسول ربك" أي قال لها جبريل: إنما أنا رسول ربك الذي استعذب به، ولست ممن يتوقع منه ما خطر ببالك من إرادة السوء "لأهب لك غلاماً زكياً" جعل الهبة من قبله لكونه سبباً فيها من جهة كون الإعلام لها من جهته، أو من جهة كون النفخ قام به في الظاهر. وقرأ أبو عمرو ويعقوب وورش عن نافع " يهب " على معنى أرسلني ليهب لك، وقرأ الباقون بالهمز. والزكي الطاهر من الذنوب الذي ينمو على النزاهة والعفة، وقيل المراد بالزكي النبي.
20- "قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر" أي لم يقربني زوج ولا غيره "ولم أك بغياً" البغي هي الزانية التي تبغي الرجال. قال المبرد: أصله بغوي على فعول قلبت الواو ياء ثم أدغمت في الياء وكسرت الغين للمناسبة. وقال ابن جني: إنه فعيل: وزيادة ذكر كونها لم تك بغياً مع كون قولها لم يمسسني بشر يتناول الحلال والحرام لقصد التأكيد تنزيهاً لجانبها من الفحشاء، وقيل ما استبعدت من قدرة الله شيئاً، ولكن أرادت كيف يكون الولد هل من قبل زوج تتزوجه في المستقبل أم يخلقه الله سبحانه ابتداءً؟ وقيل إن المس عبارة عن النكاح الحلال، وعلى هذا لا يحتج إلى بيان وجه قولها: ولم أك بغياً، وما ذكرناه من شموله أولى باستعمالات أهل اللغة، وما يوجد في محاوراتهم مما يطول تعداده اهـ.
21- "ولنجعله آية للناس" أي ولنجعل هذا الغلام أو خلقه من غير أب آية للناس يستدلون بها على كمال القدرة، وهو علة لمعلل محذوف، والتقدير خلقناه لنجعله، أو معطوف على علة أخرى مضمرة تتعلق بما يدل عليه قوله سبحانه: " هو علي هين " وجمة "قال كذلك قال ربك هو علي هين" مستأنفة، والقائل هو الملك، والكلام فيها كالكلام فيما تقدم من قول زكرياء. وقوله: "ورحمة منا" معطوف على آية: أي ولنجعله رحمة عظيمة كائنة منا للناس لما ينالونه من الهداية والخير الكثير، لأن كل نبي رحمة لأمته "وكان أمراً مقضياً" أي وكان ذلك المذكور أمراً مقدراً قد قدره الله سبحانه وجف به القلم.
22- "فحملته" ها هنا كلام مطوي، والتقدير: فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلأى بطنها فحملته، وقيل كانت النفخة في ذيلها، وقيل في فمها. قيل إن وضعها كان متصلاً بهذا الحمل من غير مضي مدة للحمل، ويدل على ذلك قوله: "فانتبذت به مكاناً قصياً" أي تنحت واعتزلت إلى مكان بعيد، والقصي هو البعيد. قيل كان هذا المكان وراء الجبل، وقيل أبعد مكان في تلك الدار، وقيل أقصى الوادي، وقيل إنها حملت به ستة أشهر، وقيل ثمانية أشهر، وقيل سبعة.
23- "فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة" أي ألجأها واضطرها، ومنه قول زهير: أجاءته المخافة والرجاء وقرأ شبل فاجأها من المفاجأة، ورويت هذه القراءة عن عاصم، وقرأ الحسن بغير همز، وفي مصحف أبي فلما أجاءها قال في الكشاف: إن أجاءها منقول من جاء، إلا أن استعماله قد تعين بعد النقل إلى معنى الإلجاء، وفيه بعد، والظاهر أن كل واحد من الفعلين موضوع بوضع مستقل، والمخاض مصدر مخضت المرأة تمخض مخضاً ومخاضاً إذا دنا ولادها. وقرأ الجمهور بفتح الميم، وقرأ ابن كثير بكسرها. والجذع ساق النخلة اليابسة، كأنها طلبت شيئاً تستند إليه وتتعلق به كما تتعلق الحامل لشدة وجع الطلق بشيء مما تجده عندها، والتعريف إما للجنس أو للعهد "قالت يا ليتني مت قبل هذا" أي قبل هذا الوقت، تمنت الموت لأنها خافت أن يظن بها السوء في دينها، أو لئلا يقع قوم بسببها في البهتان "وكنت نسياً" النسي في كلام العرب: الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى ولا يذكر ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل، ومنه قول الكميت: أتجعلنا خسراً لكلب قضاعة ولسنا بنسي في معد ولا دخل وقال الفراء: النسي ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها، فتقول مريم "نسياً منسياً" أي حيضة ملقاة، وقد قرئ بفتح النون وكسرها، وهما لغتان مثل الحجر والحجر، والوتر والوتر. وقرأ محمد بن كعب القرظي نساء بالهمز مع كسر النون. وقرأ نوف البكالي بالهمز مع فتح النون. وقرأ بكر بن حبيب نسياً بفتح النون وتشديد الياء بدون همز، والمنسي المتروك الذي لا يذكر ولا يخطر ببال أحد من الناس.
24- "فناداها من تحتها" أي جبريل لما سمع قولها، وكان أسفل منها تحت الأكمة، وقيل تحت النخلة، وقيل المنادي هو عيسى. وقد قرئ بفتح الميم من من وكسرها. وقوله: " أن لا تحزني " تفسير للنداء: أي لا تحزني أو المعنى بأن لا تحزني على أنها المصدرية "قد جعل ربك تحتك سرياً" قال جمهور المفسرين: السري النهر الصغير، والمعنى: قد جعل ربك تحت قدمك نهراً. قيل كان نهراً قد انقطع عنه الماء، فأرسل الله فيه الماء لمريم، وأحيا به ذلك الجذع اليابس الذي اعتمدت عليه حتى أورق وأثمر، وقيل المراد بالسري هنا عيسى، والسري: العظيم من الرجال، ومنه قولهم فلان سري: أي عظيم، ومن قوم سراة: أي عظام.
25- "وهزي إليك بجذع النخلة" الهز التحريك: يقال هزه فاهتز، والباء في بجذع النخلة مزيدة للتوكيد: وقال الفراء: العرب تقول هزه وهز به، والجذع هو أسفل الشجرة. قال قطرب: كل خشبة في أصل شجرة فهي جذع، ومعنى إليك: إلى جهتك، وأصل تساقط تتساقط فأدغم التاء في السين. وقرأ حمزة والأعمش تساقط مخففاً. وقرأ عاصم في رواية حفص والحسن بضم التاء مع التخفيف وكسر القاف وقرئ تتساقط بإظهار الناءين. وقرئ بالتحتية مع تشديد السين. وقرئ تسقط، ويسقط. وقرأ الباقون بإدغام التاء في السين، فمن قرأ بالفوقية جعل الضمير للنخلة، ومن قرأ بالتحتية جعل الضمير للجذع، وانتصاب "رطباً" على بعض هذه القراءات للتمييز، وعلى البعض الآخر على المفعولية لتساقط. قال المبرد والأخفش: يجوز انتصاب رطباً بهزي: أي هزي إليك رطباً "جنياً" بجذع النخلة: أي على جذعها، وضعفه الزمخشري، والجني المأخوذ طرياً، وقيل هو ما طلب وصلح للاجتناء، وهو فعيل بمعنى مفعول. قال الفراء: الجني والمجني واحد، وقيل هو فعيل بمعنى فاعل: أي رطباً طرياً طيباً.