تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 581 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 581

580

20- "ألم نخلقكم من ماء مهين" أي ضعيف حقير، وهو النطفة.
21- "فجعلناه في قرار مكين" أي مكان حريز، وهو الرحم.
22- "إلى قدر معلوم" أي إلى مقدار معلوم، وهو مدة الحمل، وقيل إلى أن يصور.
23- "فقدرنا" قرأ الجمهور "فقدرنا" بالتخفيف. وقرأ نافع والكسائي بالتشديد من التقدير. قال الكسائي والفراء: وهما لغتان بمعنى تقول: قدرت كذا، وقدرته "فنعم القادرون" أي نعم المقدرون نحن، قيل المعنى: قدرناه قصيراً أو طويلاً، وقيل معنى قدرنا ملكنا.
24- "ويل يومئذ للمكذبين" بقدرتنا على ذلك.
ثم بين لهم بديع صنعه وعظيم قدرته ليعتبروا فقال: 25- "ألم نجعل الأرض كفاتاً" معنى الكفت في اللغة: الضم والجمع، يقال كفت الشيء: إذا ضمه وجمعه، ومن هذا يقال للجراب والقدر كفت، والمعنى: ألم نجعل الأرض ضامة للأحياء على ظهرها والأموات في باطنها تضمهم وتجمعهم. قال الفراء: يريد تكتفهم أحياء على ظهرها في دورهم ومنازلهم.
وتكتفهم أمواتاً في بطنها: أي تحوزهم وهو معنى قوله: 26- "أحياء وأمواتاً" وأنشد سيبويه: كرام حين تنكفت الأفـاعــي إلى أجحــارهــن من الصــقيــع قال أبو عبيدة كفاتاً أوعية، ومنه قول الشاعر: فأنت اليوم فوق الأرض حي وأنت غداً تضـمــن في كفــات أي في قبر، وقيل معنى جعلها كفاتاً: أنه يدفن فيها ما يخرج من الإنسان من الفضلات. وقال الأخفش وأبو عبيدة: الأحياء والأموات وصفان للأرض: أي الأرض منقسمة إلى حي وهو الذي ينبت، وإلى ميت وهو الذي لا ينبت. قال الفراء: انتصاب أحياء وأمواتاً بوقوع الكفات عليه: أي ألم نجعل الأرض كفات أحياء وأموات، فإذا نون نصب ما بعده، وقيل نصباً على الحال من الأرض: أي منها كذا ومنها كذا، وقيل هو مصدر نعت به للمبالغة. وقال الأخفش: كفاتاً جمع كافتة، والأرض يراد بها الجمع فنعتت بالجمع. وقال الخليل: التكفت تقليب الشيء ظهراً لبطن أو بطناً لظهر، ويقال انكفت القوم إلى منازلهم: أي ذهبوا.
27- "وجعلنا فيها رواسي شامخات" أي جبالاً طوالاً، والرواسي الثوابت، والشامخات الطوال، وكل عال فهو شامخ "وأسقيناكم ماءً فراتاً" أي عذباً، والفرات الماء العذب يشرب منه ويسقى به. قال مقاتل: وهذا كله أعجب من البعث.
28- "ويل يومئذ للمكذبين" بما أنعمنا عليهم من نعمنا التي هذه من جملتها. وقد أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي هريرة "والمرسلات عرفاً" قال: هي الملائكة أرسلت بالعرف. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود "والمرسلات عرفاً" قال الريح "فالعاصفات عصفاً" قال: الريح "والناشرات نشراً" قال: الريح. وأخرج ابن راهويه وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب أنه جاء رجل إلى علي بن أبي طالب، فقال ما العاصفات عصفاً؟ قال الرياح. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس "والمرسلات عرفاً" قال: الريح "فالعاصفات عصفاً" قال: الريح "فالفارقات فرقاً" قال: الملائكة "فالملقيات ذكراً" قال: الملائكة. وأخرج ابن المنذر عنه "والمرسلات عرفاً" قال: الملائكة "فالفارقات فرقا" قال: الملائكة، فرقت بين الحق والباطل "فالملقيات ذكرا" قال: بالتنزيل. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن مسعود قال: ويل واد في جنهم يسيل فيه صديد أهل النار، فجعل للمكذبين. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس " من ماء مهين " قال: ضعيف. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه "كفاتاً" قال: كنا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً "رواسي شامخات" قال: جبالاً مشرفات، وفي قوله: "فراتاً" قال: عذاباً.
29- "انطلقوا إلى ما كنتم" هو بتقدير القول: أي يقال لهم توبيخاً وتقريعاً.
30- "انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون" في الدنيا، تقول لهم ذلك خزنة جهنم: أي سيروا إلى ما كنتم تكذبون به من العذاب، وهو عذاب النار "انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب" إي إلى ظل من دخان جهنم قد سطع، ثم افترق ثلاث فرق تكونون فيه حتى يفرغ الحساب وهذا شأن الدخان العظيم إذا ارتفع تشعب شعباً. قرأ الجمهور "انطلقوا" في الموضعين على صيغة الأمر على التأكيد. وقرأ رويس عن يعقوب بصيغة الماضي في الثاني: أي لما أمروا بالانطلاق امتثلوا ذلك فانطلقوا. وقيل المراد بالظل هنا هو السرادق، وهو لسان من النار يحيط بهم. ثم يتشعب ثلاث شعب فيظلهم حتى يفرغ من حسابهم، ثم يصيرون إلى النار. وقيل هو الظل من يحموم كما في قوله: " في سموم وحميم* وظل من يحموم " على ما تقدم.
ثم وصف سبحانه هذا الظل تهكماً بهم فقال: 31- "لا ظليل ولا يغني من اللهب" أي لا يظل من الحر ولا يغني من اللهب. قال الكلبي: لا يرد حر جهنم عنكم.
ثم وصف سبحانه النار فقال: 32- "إنها ترمي بشرر كالقصر" أي كل شررة من شررها التي ترمي بها كالقصر من القصور في عظمها، والشرر: ما تطاير من النار متفرقاً، والقصر: البناء العظيم. وقيل القصر جمع قصرة ساكنة الصاد مثل حمر وحمرة وتمر وتمرة، وهي الواحدة من جزل الحطب الغليظ. قال سعيد بن جبير والضحاك: وهي أصول الشجر العظام، وقيل أعناقه. قرأ الجمهور "كالقصر" بإسكان الصاد، وهو واحد القصور كما تقدم: وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد والسلمي بفتح الصاد: أي أعناق النخل والقصرة العنق جمعه قصر وقصرات. وقال قتادة: أعناق الإبل. وقرأ سعيد بن جبير بكسر القاف وفتح الصاد، وهي أيضاً جمع قصرة مثل بدر وبدرة وقصع وقصعة. وقرأ الجمهور "بشرر" بفتح الشين. وقرأ ابن عباس وابن مقسم بكسرها مع ألف بين الراءين. وقرأ عيسى كذلك إلا أنه يفتح الشين، وهي لغت.
ثم شبه الشرر باعتبار لونه فقال: 33- " كأنه جمالة صفر " وهي جمع جمال، وهي الإبل أو جمع جمالة. قرأ الجمهور " جمالة " بكسر الجيم. وقرأ حمزة والكسائي وحفص " جمالة " جمع جمل. وقرأ ابن عباس والحسن وابن جبير وقتادة وأبو رجاء جمالات بضم الجيم، وهي حبال السفن. قال الواحدي: والصفر معناها السود في قول المفسرين. قال الفراء: الصفر سواد الإبل لا يرى أسود من الإبل إلا وهو مشرب صفرة، لذلك سمت العرب سود الإبل صفراً. قيل والشرر إذا تطاير وسقط وفيه من لون النار أشبه شيء بالإبل السود، ومنه قول الشاعر: تلك خيلي وتلك ركابي هن صفر أولادها كالزبيب أي هن سود، قيل وهذا القول محال في اللغة أن يكون شيء يشوبه شيء قليل، فينسب كله إلى ذلك الشائب، فالعجب لمن قال بهذا، وقد قال تعالى: " جمالة صفر ". وأجيب بأن وجهه أن النار خلقت من النور فهي مضيئة، فلما خلق الله جهنم، وهي موضع النار حشي ذلك الموضع بتلك النار، وبعث إليها سلطانه وغضبه فاسودت من سلطانه وازدادت سواداً، وصارت أشد سواداً من كل شيء، فيكون شررها أسود لأنه من نار سوداء. قلت: وهذا الجواب لا يدفع ما قاله القائل، لأن كلامه باعتبار ما قوع في الكتاب العزيز هنا من وصفها بكونها صفراء، فلو كان الأمر كما ذكره المجيب من اسوداد النار، واسوداد شررها، لقال الله: كأنها جمالات سود، ولكن إذا كانت العرب تسمي الأسود أصفر لم يبق إشكال، لأن القرآن نزل بلغتهم، وقد نقل الثقات عنهم ذلك، فكان ما في القرآن هنا وارداً على هذا الاستعمال العربي.
34- "ويل يومئذ للمكذبين" لرسل الله وآياته.
35- "هذا يوم لا ينطقون" أي لا يتكلمون قال الواحدي: قال المفسرون: في يوم القيامة مواقف، ففي بعضها يتكلمون، وفي بعضها يختم على أفواههم فلا يتكلمون، وقد قدمنا الجمع بهذا في غير موضع. وقيل إن هذا إشارة إلى وقت دخولهم النار وهم عند ذلك لا ينطقون، لأن مواقف السؤال والحساب قد انقضت. وقال الحسن: لا ينطقون بحجة وإن كانوا ينطقون. قرأ الجمهور برفع "يوم" على أنه خبر لإسم الإشارة. وقرأ زيد بن علي والأعرج والأعمش وأبو حيوة وعاصم في رواية عنه بالفتح على البناء لإضافته إلى الفعل، ومحله الرفع على الخبرية، وقيل هو منصوب على الظرفية، والإشارة بهذا إلى ما تقدم من الوعيد كأنه قيل هذا العقاب المذكور كائن يوم لا ينطقون.
36- "ولا يؤذن لهم فيعتذرون" قرأ الجمهور "يؤذن" على البناء للمفعول، وقرأ زيد بن علي " ولا يؤذن " على البناء للفاعل: أي لا يأذن الله لهم: أي لا يكون لهم إذن من الله فيكون لهم اعتذار من غير أن يجعل الاعتذار مسبباً عن الأذن كما لو نصب. قال الفراء: الفاء في فيعتذرون نسق على يؤذن وأجيز ذلك لأن أواخر الكلام بالنون، ولو قال فيعتذروا لم يوافق الآيات، وقد قال: "لا يقضى عليهم فيموتوا" بالنصب، والكل صواب.
37- "ويل يومئذ للمكذبين" بما دعتهم إليه الرسل وأنذرتهم عاقبته.
38- "هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين" أي ويقال لهم: هذا يوم الفصل الذي يفصل فيه بين الخلائق ويتميز فيه الحق من الباطل، والخطاب في جمعناكم للكفار في زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والمراد بالأولين كفار الأمم الماضية.
39- "فإن كان لكم كيد" أي إن قدرتم على كيد الآن "فكيدون" وهذا تقريع وتوبيخ لهم. قال مقاتل: يقول إن كان لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم، وقيل المعنى: فإن قدرتم على حرب فحاربون، وقيل إن هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون كقول هود: "فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون".
40- "ويل يومئذ للمكذبين" لأنه ظهر لهم عجزهم وبطلان ما كانوا عليه في الدنيا.
ثم ذكر سبحانه المؤمنين فقال: 41- "إن المتقين في ظلال وعيون" أي في ظلال الأشجار وظلال القصور، لا كالظل الذي للكفار من الدخان، أو من النار كما تقدم. قال مقاتل والكلبي: المراد بالمتقين الذين يتقون الشرك بالله، لأن السورة من أولها إلى آخرها في تقريع الكفار على كفرهم. قال الرازي: فيجب أن تكون هذه الآية مذكورة لهذا الغرض وإلا لتفككت السورة في نظمها وترتيبها وإنما يتم النظم بأن يكون الوعد للمؤمنين بسبب إيمانهم، فأما جعله سبباً للطاعة فلا يليق بالنظم كذا قال، والمراد بالعيون الأنهار، وبالفواكه ما يتفكه به مما تطلبه أنفسهم وتستدعيه شهواتهم.
42- "وفواكه مما يشتهون".
43- "كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون" أي يقال لهم ذلك، فالجملة مقدرة بالقول، وهي في محل نصب على الحال من ضمير المتقين، والباء للسببية: أي بسبب ما كنتم تعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة.
44- "إنا كذلك نجزي المحسنين" أي مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي المحسنين في أعمالهم، قرأ الجمهور "في ظلال". وقرأ الأعمش والزهري وطلحة والأعرج في ظلل جمع ظلة.
45- "ويل يومئذ للمكذبين" حيث صاروا في شقاء عظيم، وصار المؤمنون في نعيم مقيم.
46- "كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون" الجملة بتقدير القول في محل نصب على الحال من المكذبين: أي الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم ذلك تذكير لهم بحالهم في الدنيا، أو يقال لهم هذا في الدنيا، والمجرمون المشركون بالله، وهذا وإن كان في اللفظ أمراً فهو في المعنى تهديد وزجر عظيم.
47- "ويل يومئذ للمكذبين" كرره لزيادة التوبيخ والتقريع.
48- "وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون" أي وإذا أمروا بالصلاة لا يصلون. قال مقاتل: نزلت في ثقيف امتنعوا من الصلاة بعد أن أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بها فقالوا: لا ننحني فإنها مسبة علينا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود. وقيل إنما يقال لهم ذلك في الآخرة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون. وقيل المعني بالركوع: الطاعة والخشوع.
49- "ويل يومئذ للمكذبين" بأوامر الله سبحانه ونواهيه.
50- "فبأي حديث بعده يؤمنون" أي فبأي حديث بعد القرآن يصدقون إذا لم يؤمنوا به. قرأ الجمهور "يؤمنون" بالتحتية على الغيبة. وقرأ ابن عامر في رواية عنه، ويعقوب بالفوقية على الخطاب. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "بشرر كالقصر" قال: كالقصر العظيم، وقوله: " جمالة صفر " قال: قطع النحاس. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وهناد وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر والحاكم وابن مردويه من طريق عبد الرحمن بن عابس قال: سمعت ابن عباس يسأل عن قوله: "إنها ترمي بشرر كالقصر" قال: كنا نرفع الخشب بقدر ثلاثة أذرع أو أقل، فنرفعه للشتاء فنسميه القصر. قال: وسمعته يسأل عن قوله: " جمالة صفر " قال: حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الرجال. ولفظ البخاري: كنا نعمد إلى الخشبة ثلاثة أذرع وفوق ذلك فنرفعه للشتاء فنسميه القصر " كأنه جمالة صفر " حبال السفن تجمع حتى تكون كأوساط الرجال. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أنه قرأ كالقصر بفتح القاف والصاد. وقال قصر النخل: يعني الأعناق. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال: كانت العرب في الجاهلية تقول: أقصوا لنا الحطب، فيقطع على قدر الذراع والذارعين. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط عن ابن مسعود في قوله: "ترمي بشرر كالقصر" قال: إنها ليست كالشجر والجبار، ولكنها مثل المدائن والحصون. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "كالقصر" قال: هو القصر، وفي قوله: " جمالة صفر " قال: الإبل. وأخرج الحاكم وصححه من طريق عكرمة قال: سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن قوله: "هذا يوم لا ينطقون" " فلا تسمع إلا همسا " "وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون" و" هاؤم اقرؤوا كتابيه " فقال له: ويحك هل سألت عن هذا أحد قبلي؟ قال لا، قال: أما أنك لو كنت سألت هلكت، أليس قال الله: "وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون" قال بلى، قال: فإن لكل مقدار يوم من هذه الأيام لوناً من الألوان. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس "وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون" يقول: يدعون يوم القيامة إلى السجود فلا يستطيعون من أجل أنهم لم يكونوا يسجدون لله في الدنيا.