تفسير الطبري تفسير الصفحة 129 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 129
130
128
 الآية : 9
القول في تأويل قوله تعالى:
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مّا يَلْبِسُونَ }..
يقول تعالى ذكره: ولو جعلنا رسولنا إلى هؤلاء العادلين بي, القائلين: لولا أنزل على محمد ملك بتصديقه ملكا ينزل عليهم من السماء, ويشهد بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم ويأمرهم باتباعه, لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً يقول: لجعلناه في صورة رجل من البشر, لأنهم لا يقدرون أن يروا الملك في صورته. يقول: وإذا كان ذلك كذلك, فسواء أنزلت عليهم بذلك ملكا أو بشرا, إذ كنت إذا أنزلت عليهم مَلَكا إنما أنزله بصورة إنسيّ, وحججي في كلتا الحالتين عليهم ثابته بأنك صادق وأن ما جئتهم به حقّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10273ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمار, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ولَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكا لَجَعَلْناه رَجُلاً يقول: ما أتاهم إلا في صورة رجل, لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة.
10274ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ولَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكا لَجَعَلْناه رَجُلاً في صورة رجل في خلق رجل.
10275ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ولَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكا لَجَعَلْناه رَجُلاً يقول: لو بعثنا إليهم ملكا لجعلناه في صورة آدمي.
حدثني محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ولَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكا لَجَعَلْناه رَجُلاً يقول: في صورة آدميّ.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, حدثنا قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله.
10276ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ولَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكا لَجَعَلْناه رَجُلاً قال: لجعلنا ذلك الملك في صورة رجل, لم نرسله في صورة الملائكة.
القول في تأويل قوله تعالى: وَللَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ.
يعني تعالى ذكره بقوله: وَللَبَسْنا عَلَيْهِمْ: ولو أنزلنا ملكا من السماء مصدّقا لك يا محمد, شاهدا لك عند هؤلاء العادلين بي الجاحدين آياتك على حقيقة نبوّتك, فجعلناه في صورة رجل من بني آدم إذ كانوا لا يطيقون رؤية الملَك بصورته التي خلفته بها, التبس عليهم أمره فلم يدروا ملك هو أم أنسيّ, فلم يوقنوا به أنه ملك ولم يصدّقوا به, وقالوا: ليس هذا ملكا, وللبسنا عليهم ما يلبسونه على أنفسهم من حقيقية أمرك وصحة برهانك وشاهدك على نبوّتك. يقال منه: لَبَسْتُ عليهم الأمر ألْبِسُهُ لَبْسا: إذا خلطته عليهم, ولَبِسْتُ الثوبَ ألْبَسُهُ لُبْسا, واللّبُوس: اسم الثياب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10277ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: وَللَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ يقول: لشبهنا عليهم.
10278ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَللَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ يقول: ما لبس قوم على أنفسهم إلا لبس الله عليهم واللبس: إنما هو من الناس.
10279ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَللَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ يقول: شبّهنا عليهم ما يشبهون على أنفسهم.
وقد رُوي عن ابن عباس في ذلك قول آخر, وهو ما:
10280ـ حدثني به محمد بن سعيد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَللَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ فهم أهل الكتاب فارقوا دينهم وكذّبوا رسلهم, وهو تحريف الكلام عن مواضعه.
10281ـ حدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ, قال: حدثنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك, في قوله: وَللَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ يعني التحريف: هم أهل الكتاب, فرّقوا ودينهم وكذّبوا رسلهم, فلبس الله عليهم ما لبسوا على أنفسهم.
وقد بينا فيما مضى قبل أن هذه الاَيات من أوّل السورة بأن تكون في أمر المشركين من عبدة الأوثان أشبه منها بأمر أهل الكتاب من اليهود والنصارى, بما أغنى عن إعادته.
الآية : 10
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ }..
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مسليا عنه بوعيده المستهزئين به عقوبة ما يلقى منهم من أذى الاستهزاء به والاستخفاف في ذات الله: هوّن عليك يا محمد ما أنت لا ق من هؤلاء المستهزئين بك المستخفين بحقك فيّ وفي طاعتي, وامض لما أمرتك به من الدعاء إلى توحيدي والإقرار بي والإذعان لطاعتي فإنهم إن تمادوا في غيهم وأصرّوا على المقام على كفرهم, نسلك بهم سبيل أسلافهم من سائر الأمم غيرهم من تعجيل النقمة لهم وحلول المثلاث بهم, فقد استهزأت أمم من قبلك برسل أرسلتهم إليهم بمثل الذي أرسلتك به إلى قومك, وفعلوا مثل فعل قومك بك, فَحَاقَ بالّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ يعني بقوله: فحاقَ فنزل وأحاط بالذين هزئوا برسلهم وما كانُوا بِهِ يَسْتهْزِئُونَ يقول: العذاب الذي كانوا يهزءون به وينكرون أن يكون واقعا بهم على ما أنذرتهم رسلهم. يقال منه: حاق بهم هذا الأمر يَحِيقُ بهم حَيْقا وحُيُوقا وحَيَقانا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10282ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: فَحاقَ بالّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ من الرسل, ما كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ يقول: وقع بهم العذاب الذي استهزءوا به.
الآية : 11
القول في تأويل قوله تعالى:
{قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ ثُمّ انْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ }..
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء العادلين بي الأوثان والأنداد المكَذّبينَ بك الجاحدين حقيقة ما جئتم به من عندي: سِيرُوا فِي الأرْضِ يقول: جولوا في بلاد المكذبين رسلهم الجاحدين آياتي من قبلهم من ضُرَبائهم وأشكالهم من الناس. ثُمّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عاقِبَةُ المْكَذّبِينَ يقول: ثم انظروا كيف أعقبهم تكذيبهم ذلك الهلاك والعطب وخزي الدنيا وعارها, وما حلّ بهم من سخط الله عليهم من البور وخراب الديار وعفوّ الاَثار. فاعتبروا به, إن لم تنهكم حلومكم, ولم تزجركم حجج الله عليكم, فما أنتم مقيمون عليه من التكذيب, فاحذروا مثل مصارعهم واتقوا أن يحلّ بكم مثل الذي حلّ بهم. وكان قتادة يقول في ذلك بما:
10283ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ ثُمّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عاقِبَةُ المْكَذّبِينَ دمر الله عليهم وأهلكهم ثم صيرهم إلى النار.
الآية : 12
القول في تأويل قوله تعالى:
{قُل لّمَن مّا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُل للّهِ كَتَبَ عَلَىَ نَفْسِهِ الرّحْمَةَ لَيَجْمَعَنّكُمْ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }..
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم: لمن ما في السموات والأرض؟ يقول: لمن ملك ما في السموات والأرض. ثم أخبرهم أن ذلك لله الذي استعبد كلّ شيء وقهر كل شيء بملكه وسلطانه, لا للأوثان والأنداد ولا لما يعبدونه ويتخذونه إلها من الأصنام التي لا تملك لأنفسها نفعا ولا تدفع عنها ضرّا.
وقوله: كَتَبَ على نَفْسِهِ الرّحْمَةَ يقول: قضي أنه بعباده رحيم, لا يعجل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم الإنابة والتوبة. وهذا من الله تعالى ذكره استعطاف للمعرضين عنه إلى الإقبال إليه بالتوبة, يقول تعالى ذكره: أن هؤلاء العادلين بي الجاحدين نبوّتك يا محمد, إن تابوا وأنابوا قبلت توبتهم, وإني قد قضيت في خلقي أن رحمتي وسعت كل شيء. كالذي:
10284ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن ذكوان, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: «لَمّا فَرَغَ اللّهُ مِنَ الخَلْقِ كَتَبَ كِتابا: إنّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبِي».
10285ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا عبد الوهاب, قال: حدثنا داود, عن أبي عثمان, عن سليمان, قال: «إن الله تعالى لما خلق السماء والأرض, خلق مائة رحمة, كل رحمة ملء ما بين السماء إلى الأرض, فعنده تسع وتسعون رحمة, وقسّم رحمةً بين الخلائق فبها يتعاطفون وبها تشرب الوحش والطير الماء, فإذا كان يوم القيامة قصرها الله على المتقين وزادهم تسعا وتسعين».
حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا ابن أبي عديّ, عن داود, عن أبي عثمان, عن سلمان نحوه, إلا أن ابن أبي عديّ لم يذكر في حديثه وبها تشرب الوحش والطير الماء.
10286ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن عاصم بن سليمان, عن أبي عثمان عن سليمان, قال: نجد في التوراة عطفتين: أن الله خلق السموات والأرض, ثم خلق مئة رحمة أو: جعل مئة رحمة قبل أن يخلق الخلق, ثم خلق الخلق فوضع بينهم رحمة واحدة, وأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة, قال: فيها يتراحمون, وبها يتباذلون, وبها يتعاطفون, وبها يتزاورون, وبها تحنّ الناقة, وبها تَنْئِج البقرة, وبها تيعر الشاة, وبها تتّابع الطير, وبها تتّابع الحيتان في البحر فإذا كانوا يوم القيامة جمع الله تلك الرحمة إلى ما عنده, ورحمته أفضل وأوسع.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن عاصم بن سليمان, عن أبي عثمان الهدى, عن سلمان, في قوله: كَتَبَ على نَفْسِهِ الرّحْمَةَ... الاَية, قال: أنا نجد في التوراة عطفتين, ثم ذكر نحوه, إلا أنه ما قال: «وبها تتّابع الطير, وبها تتّابع الحيتان في البحر.
10287ـ حدثنا محمد بن الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, قال: قال ابن طاوس, عن أبيه: إن الله تعالى لما خلق الخلق, لم يعطف شيء على شيء, حتى خلق مئة رحمة, فوضع بينهم رحمة واحدة, فعطف بعض الخلق على بعض.
حدثني الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه بمثله.
10288ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, قال: وأخبرني الحكم بن أبان, عن عكرمة حسبته أسنده قال: إذا فرغ الله عزّ وجلّ من القضاء بين خلقه, أخرج كتابا من تحت العرش فيه: «إن رحمتي سبقت غضبي, وأنا أرحم الراحمين» قال: فيخرج من النار مثل أهل الجنة, أو قال مثلاً أهل الجنة, ولا أعلمه إلا قال: «مثلا», وأما مثل فلا أشكّ مكتوبا ها هنا, وأشار الحكم إلى نحره, عتقاء الله. فقال رجل لعكرمة: يا أبا عبد الله, فإن الله يقول: يُرِيدُونَ أنْ يَخْرُجُوا مِنَ النّارِ ومَا هُمْ بخَارِجينَ مِنْها ولَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ قال: ويلك أولئك أهلها الذين هم أهلها.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الحكم بن أبان, عن عكرمة حسبت أنه أسنده قال: إذا كان يوم القيامة أخرج الله كتابا من تحت العرش, ثم ذكر نحوه, غير أنه قال: فقال رجل: يا أبا عبد الله, أرأيت قوله: يُرِيدُونَ أنْ يَخْرُجُوا مِنَ النّارِ وسائر الحديث مثل حديث ابن عبد الأعلى.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن همام بن منبه, قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لَمّا قَضَى اللّهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتابٍ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إنّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي».
10289ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن أبي أيوب, عن عبد الله بن عمرو, أنه كان يقول: إن لله مئة رحمة, فأهبط رحمة إلى أهل الدنيا يتراحم بها الجنّ والإنس وطائر السماء وحيتان الماء ودوابّ الأرض وهوامّها وما بين الهواء واختزن عند تسعا وتسعين رحمة, حتى إذا كان يوم القيامة اختلج الرحمة التي كان أهبطها إلى أهل الدنيا, فحواها إلى ما عنده, فجعلها في قلوب أهل الجنة وعلى أهل الجنة.
10290ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: قال عبد الله بن عمرو: أن الله مئة رحمة, أهبط منها إلى الأرض رحمة واحدة يتراحم بها الجن والإنس والطير والبهائم وهوّام الأرض.
10291ـ حدثنا محمد بن عوف, قال: أخبرنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج, قال: حدثنا صفوان بن عمرو, قال: ثني أبو المخارق زهير بن سالم, قال: قال عمر لكعب: ما أوّل شيء ابتداه الله من خلقه؟ فقال كعب: كتب الله كتابا لم يكتبه بقلم ولا مداد, ولكنه كتب بأصبعه يتلوها الزبرجد واللؤلؤ والياقوت: «أنا الله لا إله إلا أنا سبقت رحمتي غضبي».
القول في تأويل قوله تعالى: لَيَجْمَعَنّكُمْ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ.
وهذه اللام التي في قوله: لَيَجْمَعَنّكُمْ لام قسم. ثم اختلف أهل العربية في جالبها, فكان بعض نحويي الكوفة يقول: إن شئت جعلت الرحمة غاية كلام, ثم استأنفتَ بعدها: لَيَجْمَعَنّكُمْ, قال: وإن شئت جعلته في موضع نصب, يعني كتب لَيَجْمَعَنّكُمْ كما قال: كَتَبَ على نَفْسِهِ الرّحْمَةَ أنّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهالَةٍ يريد: كتب أنه من عمل منكم. قال: والعرب تقول في الحروف التي يصلح معها جواب كلام الأيمان بأن المفتوحة وباللام, فيقولون: أرسلت إليه أن يقوم, وأرسلت إليه ليقومنّ. قال: وكذلك قوله: ثُمّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِما رَأُوا الاَياتِ ليَسْجُنُنّهُ حتى حِينٍ. قال وهو في القرآن كثير إلا ترى أنك لو قلت: بدا لهم أن يسجنوه, لكان صوابا؟ وكان بعض نحوي البصرة يقول: نصبت لام لَيَجْمَعَنّكُمْ لأن معنى كتاب كأنه قال: والله ليجمعنكم.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يكون قوله: كَتَبَ على نَفْسِهِ الرّحْمَةَ غاية, وأن يكون قوله: لَيَجْمَعَنّكُمْ خبر مبتدإ, ويكون معنى الكلام حينئد: ليجمعنكم الله أيها العادلون بالله ليوم القيامة الذي لا ريب فيه لينتقم منكم بكفركم به.
وإنما قلت: هذا القول أولى بالصواب من إعمال كتب في لَيَجْمَعَنّكُمْ لأن قوله: كَتَبَ قد عمل في الرحمة, فغير جائز وقد عمل في الرحمة أن يعمل في: لَيَجْمَعَنّكُمْ لأنه لا يتعدى إلى اثنين.
فإن قال قائل: فما أنت قائل في قراءة من قرأ: كَتَبَ على نَفْسِهِ الرّحْمَةَ أنه بفتح أن؟ قيل: إن ذلك إذ قرىء كذلك, فإن «أن» بيان عن الرحمة وترجمة عنها, لأن معنى الكلام: كتاب على نفسه الرحمة أن يرحم (من تاب) من عباده بعد اقتراف السوء بجهالة, ويعفو والرحمة يترجم عنها, ويبين معناها بصفتها, وليس من صفة الرحمة لَيَجْمَعَنّكُمْ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ فيكون مبينا به عنها. فإن كان ذلك كذلك, فلم يبق إلا أن ينصب بنية تكرير كتب مرة أخرى معه, ولا ضرورة بالكلام إلى ذلك فتوجه إلى ما ليس بموجود في ظاهر.
وأما تأويل قول لا رَيْبَ فِيهِ فإنه لا يشكّ فيه, يقول: في أن الله يجمعكم إلى يوم القيامة فيحشركم إليه جميعا, ثم يؤتى كلّ عامل منكم أجر ما عمل من حسن أوسيّىء.
القول في تأويل قوله تعالى: الّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يؤْمِنُونَ.
يعني تعالى ذكره بقوله: الّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ العادلين به الأوثان والأصنام يقول تعالى ذكره: ليجمعنّ الله الذين خسروا أنفسهم, يقول: الذين أهلكوا أنفسهم وغبنوها بادعائهم لله الندّ والعديل, فأبقوها بإيجابهم سخط الله وأليم عقابه في المعاد. وأصل الخسار: الغَبْن, يقال منه: خسر الرجل في البيع: إذا غبن, كما قال الأعشى:
لا يأخُذُ الرّشْوَةَ فَي حُكْمِهِولا يُبَالي خَسَرَ الخاسِرِ
وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته. وموضوع «الذين» في قوله: الّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ نصب على الردّ على الكاف والميم في قوله: لَيَجْمَعَنّكُمْ على وجه البيان عنها. وذلك أن الذين خسروا أنفسهم, هم الذين خوطبوا بقوله: لَيَجْمَعَنّكُمْ. وقوله: فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يقول: فهم لأهلاكهم أنفسهم وغبنهم إياه حظها لا يؤمنون, أي لا يوحدون الله ولا يصدّقون بوعده ووعيده ولا يقرون بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم.
الآية : 13
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الْلّيْلِ وَالنّهَارِ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ }..
يقول تعالى ذكره: لا يؤمن هؤلاء العادلون بالله الأوثان, فيخلصوا له التوحيد ويفردوا له الطاعة ويقرّوا بالألوهية جهلاً. وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللّيْلِ والنّهارِ يقول: وله ملك كل شيء, لأنه لا شيء من خلق الله إلا وهو ساكن الليل والنهار, فمعلوم بذلك أن معناه ما وصفنا. وَهُوَ السّمِيعُ ما يقول هؤلاء المشركون فيه من ادّعائهم له شريكا, و ما يقول غيرهم من خلاف ذلك. العَلِيمُ بما يضمرونه في أنفسهم وما يظهرونه بجوارحهم, لا يخفى عليه شيء من ذلك, فهو يحصيه عليهم, ليوفي كلّ إنسان ثواب ما اكتسب وجزاء ما عمل.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: سَكَنَ قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10292ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللّيْلِ والنّهارِ يقول: ما استقرّ في الليل والنهار.
الآية : 14
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين العادلين بربهم الأوثان والأصنام, والمنكرين عليك إخلاص التوحيد لربك, الداعين إلى عبادة الاَلهة والأوثان: أشياء غير الله تعالى أتخذ وليا وأستنصره وأستعينه على النوائب والحوادث؟ كما:
10293ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسياط, عن السديّ: قُلْ أغَيْرُ اللّهِ أتّخِذُ وَلِيّا قال: أما الوليّ: فالذي يتولونه ويقرون بالربوبية.
فاطِرِ السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول أشيئا غير الله فاطر السموات والأرض أتخذ وليا؟ ففاطر السموات من نعت الله وصفته ولذلك خفض. ويعني بقوله: فاطِرِ السّمَواتِ والأرْضِ مبتدعهما ومبتدئهما وخالقهما. كالذي:
10294ـ حدثنا به ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان, عن سفيان, عن إبراهيم بن مهاجر, عن مجاهد, قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض, حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر, فقال أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها, يقول: أنا ابتدأتها.
10295ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: فاطِرِ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال: خالق السموات والأرض.
10296ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: فاطِرِ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال: خالق السموات والأرض.
يقال من ذلك: فطرها الله يَفْطُرُها ويَفْطِرُها فَطْرا وفُطُورا, ومنه قوله: هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ يعني: شقوقا وصدوعا, يقال: سيف فُطَار: إذا كثر فيه التشقق, وهو عيب فيه ومنه قول عنترة:
وسَيْفِي كالعقيقةِ فهو كِمْعِيسِلاحي لا أفلّ ولا فُطارَا
ومن يقال: فَطَر نابُ الجمل: إذا تشقق اللحم فخرج ومنه قوله: تَكادُ السّمَوَاتِ يَتَفَطّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنّ: أي يتشقّقن ويتصدعن.
وأما قوله: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ فإنه يعني: وهو يَرْوُق خلقه ولا يُرْزَق. كما:
10297ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قال: يَرْزُق, ولا يُرْزَق.
وقد ذكر عن بعضهم أنه كان يقول ذلك: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ أي أنه يطعم خلقه, ولا يأكل هو. ولا معنى لذلك لقلة القراءة به.
القول في تأويل قوله تعالى: قُلْ إنّي أُمِرْتُ أنْ أكُونَ أوّلَ مَنْ أسْلَمَ وَلا تَكُونَنّ مِنَ المُشْرِكينَ.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للذين يدعونك إلى اتخاذ الاَلهة أولياء من دون الله ويحثّونك على عبادتها: أغير الله فاطر السموات والأرض, وهو يرزقني وغيري, ولا يرزقه أحد, أتخذ وليا هو له عبد مملوك وخلق مخلوق؟ وقل لهم أيضا: إني أمرني ربي أن أكون أوّل من أسلم, يقول: أوّل من خضع له بالعبودية وتذلل لأمره ونهيه وانقاد له من أهل دهري وزماني. وَلا تَكُونَنّ مِنَ المْشُرِكِينَ يقول: وقل: وقيل لي لا تكوننّ من المشركين بالله الذين يجعلون الاَلهة والأنداد شركاء وجعل قوله: أُمِرْتُ بدلاً من «قيل لي», لأن قوله: أُمِرْتُ معناه: قيل لي, فكأنه قيل: قل إني قيل لي: كن أوّل من أسلم, ولا تكوننّ من المشركين فاجتزىء بذكر الأمر من ذكر القول, إذ كان الأمر معلوما أنه قول.
الآية : 15
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }..
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين العادلين بالله الذين يدعونك إلى عبادة أوثانهم: إن ربي نهاني عن عبادة شيء سواه, وإني أخاف إن عصيت ربي, فعبدتها عذاب يوم عظيم, يعني عذاب يوم القيامة. ووصفه تعالى بالعظم لعظم هوله وفظاعة شأنه.
الآية : 16
القول في تأويل قوله تعالى: {مّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ }..
اختلف القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامّة قراء الحجاز والمدينة والبصرة: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ بضم الياء وفتح الراء, بمعنى: من يصرف عنه العذاب يومئد. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة «مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ» بفتح الياء وكسر الراء, بمعنى: من يصرف الله عنه العذاب يومئد.
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي, قراءة من قرأه: «يَصْرِفْ عَنْهُ» بفتح الياء وكسر الراء, لدلالة قوله: فَقَدْ رَحِمَهُ على صحة ذلك, وأن القراءة فيه بتسمية فاعله. ولو كانت القراءة في قوله: مَنْ يُصْرَفُ على وجه ما لم يسمّ فاعله, كان الوجه في قوله: فَقَدْ رَحِمَهُ أن يقال: «فقد رُحِم» غير مسمى فاعله وفي تسمية الفاعل في قوله: فَقَدْ رَحِمَهُ دليل على بين أن ذلك كذلك في قوله: «مَنْ يَصْرِفُ عَنْهُ». وإذا كان ذلك هو الوجه الأولى بالقراءة, فتأويل الكلام: مَنْ يَصْرِفْ عَنْهُ من خلقه يَوْمِئِذٍ عذابه فَقَدْ رَحِمَهُ وذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ المُبِينُ. ويعني بقوله: ذَلِكَ: وصرف الله عنه العذاب يوم القيامة, ورحمته إياه الفَوْزُ أي النجاة من الهلكة والظفر بالطلبة المُبِينُ يعني الذي بين لمن رآه أنه الظفر بالحاجة وإدراك الطلبة.
وبنحو الذي قلنا في قوله: مَنْ يَصْرِفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10298ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ قال: من يصرف عنه العذاب.
الآية : 17
القول في تأويل قوله تعالى:
{وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدُيرٌ }..
يقول تعالى ذكر لنبيه صلى الله عليه وسلم: يا محمد, إن يصبك الله بضرّ, يقول: بشدّة وشظف في عيشك وضيق فيه, فلن يكشف ذلك عنك إلا الله الذي أمرك أن تكون أوّل من أسلم لأمره ونهيه, وأذعن له من أهل زمانك, دون ما يدعوك العادلون به إلى عبادته من الأوثان والأصنام ودون كلّ شيء سواها من خلقه. وَإنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ يقول: وإن يصبك بخير: أي برخاء في عيش وسعة في الرزق وكثرة في المال فتقرّ أنه أصابك بذلك, فَهُوَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول تعالى ذكره: والله الذي أصابك بذلك فهو على كل شيء قدير, هو القادر على نفعك وضرّك, وهو على كلّ شيء يريده قادر, لا يعجزه شيء يريده ولا يمتنع منه شيء طلبه, ليس كالاَلهة الذليلة المهينة التي لا تقدر على اجتلاب نفع على أنفسها ولا غيرها ولا دفع ضر عنها ولا غيرها يقول تعالى ذكره: فكيف تعبد من كان هكذا؟ أم كيف لا تخلص العبادة, وتقرّ لمن كان بيده الضرّ والنفع والثواب والعقاب وله القدرة الكاملة والعزّة الظاهرة؟
الآية : 18
القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }..
يعني تعالى ذكره بقوله: «وهو» نفسه يقول: والله القاهر فوق عباده. ويعني بقوله: القاهِرُ: المذلل المستعبد خلقه العالي عليهم. وإنما قال: «فوق عباده», لأنه وصف نفسه تعالى بقهره إياهم, ومن صفة كلّ قاهر شيئا أن يكون مستعليا عليه.
فمعنى الكلام إذن: والله الغالب عباده, المذلّلهم, العالي عليهم بتذليله لهم وخلقه إياهم, فهو فوقهم بقهره إياهم, وهم دونه. وهُوَ الحَكِيمُ يقول: والله الحكيم في علّوه على عباده وقهره إياهم بقدرته وفي سائر تدبيره, الخبير بمصالح الأشياء ومضارّها, الذي لا يخفى عليه عواقب الأمور وبواديها, ولا يقع في تدبيره خلل, ولا يدخل حكمه دخل