تفسير الطبري تفسير الصفحة 587 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 587
588
586
 سورة الانفطار مكيّة
وآياتها تسع عشرة
بسم الله الرحمَن الرحيـم

الآية : 1-5
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{إِذَا السّمَآءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مّا قَدّمَتْ وَأَخّرَتْ }.
يقول تعالى ذكره: إذَا السّماءُ انْفَطَرَتْ: انشقّت, وإذا كواكبها انتثرت منها فتساقطت, وَإذَا الْبِحارُ فُجّرَتْ يقول: فجّر الله بعضها في بعض, فملأ جميعها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في بعض ذلك. ذكر من قال ذلك:
28266ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, في قوله: وَإذَا الْبِحارُ فُجّرَتْ يقول: بعضها في بعض.
28267ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَإذَا الْبِحارُ فُجّرَتْ فُجر عذبها في مالحها, ومالحها في عذبها.
28268ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن الحسن وَإذَا الْبِحارُ فُجّرَتْ قال: فجّر بعضها في بعض, فذهب ماؤها. وقال الكلبي: ملئت.
وقوله: وَإذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ يقول: وإذا القبور أُثيرت, فاستخرج من فيها من الموتى أحياء. يقال: بعثر فلان حوض فلان: إذا جعل أسفله أعلاه, يقال: بعثره وبحثره: لغتان. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
28269ـ حدثني علي, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, في قوله: وَإذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ يقول: بُحثت.
وقوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدّمَتْ وأخّرَتْ يقول تعالى ذكره: علمت كلّ نفس ما قدّمت لذلك اليوم من عمل صالح ينفعه, وأخرت وراءه من شيء سنّه فعمل به.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك. ذكر من قال ذلك:
28270ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا المعتمر بن سليمان, عن أبيه, قال: ثني عن القُرَظِيّ, أنه قال في: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدّمَتْ وَأخّرَتْ قال: ما قدّمت مما عملت, وأما ما أخّرت فالسنة يَسُنّها الرجل, يعمل بها من بعده.
وقال آخرون: عُنِي بذلك: ما قدّمت من الفرائض التي أدتها, وما أخرّت من الفرائض التي ضيعتها. ذكر من قال ذلك:
28271ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن أبيه, عن سعيد بن مسروق, عن عكرِمة عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدّمَتْ قال: ما افترض عليها وَما أخّرَتْ قال: مما افترض عليها.
28272ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدّمَتْ وَأخّرَتْ قال: تعلم ما قدّمت من طاعة الله, وما أخرت مما أُمِرَت به من حقّ لله عليه لم تعمل به.
28273ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: عَلمَتْ نَفْسٌ ما قَدّمَتْ وأخّرَتْ قال: ما قدّمت من خير, وأخّرت من حق الله عليها لم تعمل به.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, ما قَدّمَتْ وأخّرَتْ قال: ما قدمت من طاعة الله وما أخرت من حق الله.
28274ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدّمَتْ وأخّرَتْ قال: ما قدّمت: عملت, وما أخرت: تركت وضيّعت, وأخرت من العمل الصالح الذي دعاها الله إليه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ما قدّمت من خير أو شرّ, وأخّرت من خير أو شرّ. ذكر من قال ذلك:
28275ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا العوّام, عن إبراهيم التيميّ, قال: ذكروا عنده هذه الاَية عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدّمَتْ وَأخّرَتْ قال: أنا مما أخّر الحَجاج.
وإنما اخترنا القول الذي ذكرناه, لأن كلّ ما عمل العبد من خير أو شرّ فهو مما قدّمه, وأن ما ضيّع من حقّ الله عليه وفرّط فيه فلم يعمله, فهو مما قد قدّم من شرّ, وليس ذلك مما أخّر من العمل, لأن العمل هو ما عمله, فأما ما لم يعمله فإنما هو سيئة قدّمها, فلذلك قلنا: ما أخر: هو ما سنه من سنة حسنة وسيئة, مما إذا عمل به العامل كان له مثل أجر العامل بها أو وزره.

الآية : 6-8
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{يَأَيّهَا الإِنسَانُ مَا غَرّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ * الّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ * فِيَ أَىّ صُورَةٍ مّا شَآءَ رَكّبَكَ }.
يقول تعالى ذكره: يا أيها الإنسان الكافر, أيّ شيء غرّك بربك الكريم, غرّ الإنسانَ به عدوّه المسلّط عليه, كما:
28276ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة ما غَرّكَ بِرَبّكَ الكَرِيم شيء مّا غرّ ابنَ آدم هذا العدوّ الشيطان.
وقوله: الّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ يقول: الذي خلقك أيها الإنسان فسوّى خلقك فَعَدَلكَ.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء المدينة ومكة والشام والبصرة: «فَعَدّلكَ» بتشديد الدال, وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة بتخفيفها وكأن من قرأ ذلك بالتشديد, وجّه معنى الكلام إلى أنه جعلك معتدلاً معدّل الخلق مقوّما, وكأنّ الذين قرؤوه بالتخفيف, وجّهوا معنى الكلام إلى صرفك, وأمالك إلى أيّ صورة شاء, إما إلى صورة حسنة, وإما إلى صورة قبيحة, أو إلى صورة بعض قراباته.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان في قَرَأة الأمصار, صحيحتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب, غير أن أعجبهما إليّ أن أقرأ به, قراءة من قرأ ذلك بالتشديد, لأن دخول «في» للتعديل أحسن في العربية من دخولها للعدل, ألا ترى أنك تقول: عدّلتك في كذا, وصرفتك إليه, ولا تكاد تقول: عدلتك إلى كذا وصرفتك فيه, فلذلك اخترت التشديد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك وذكرنا أن قارئي ذلك تأوّلوه, جاءت الرواية عن أهل التأويل أنهم قالوه. ذكر الرواية بذلك:
28277ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: فِي أيّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكّبَكَ قال: في أيّ شبه أب أو أم أو خال أو عمّ.
28278ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن إسماعيل, في قوله: ما شاءَ رَكّبَكَ قال: إن شاء في صورة كلب, وإن شاء في صورة حمار.
28279ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن إسماعيل, عن أبي صالح فِي أيّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكّبَكَ قال: خنزيرا أو حمارا.
28280ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن عُلَية, عن أبي رجاء, عن عكرِمة, في قوله: فِي أيّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكّبَكَ قال: إن شاء في صورة قرد, وإن شاء في صورة خنزير.
28281ـ حدثني محمد بن سنان القزّاز, قال: حدثنا مطهر بن الهيثم, قال: حدثنا موسى بن عليّ بن أبي رباح اللّخمي, قال: ثني أبي, عن جدي, أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: «ما وُلِدَ لَكَ؟» قال: يا رسول الله, ما عسى أن يولد لي, إما غلام, وإما جارية, قال: «فَمَنْ يُشْبِهُ؟» قال: يا رسول الله من عسى أن يشبه؟ إما أباه, وإما أمه فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم عندها: «مَهْ, لا تَقُولَنّ هَكَذَا, إنّ النّطْفَةَ إذا اسْتَقَرّتْ فِي الرّحِمِ أحْضَرَ اللّهُ كُلّ نَسَبٍ بَيْنَها وَبَينَ آدَمَ, أما قَرأْتَ هَذِهِ الاَيَةَ فِي كِتابِ اللّهِ فِي أيّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكّبَكَ قال: سَلَكَكَ».

الآية : 9-13
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{كَلاّ بَلْ تُكَذّبُونَ بِالدّينِ * وَإِنّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ * إِنّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ }.
يقول تعالى ذكره: ليس الأمر أيّها الكافرون كما تقولون, من أنكم على الحقّ في عبادتكم غير الله, ولكنكم تكذّبون بالثواب والعقاب والجزاء والحساب. وبنحو الذي قلنا في معنى قوله بَلْ تُكَذّبُونَ بِالدّينِ قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
28282ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحرث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: بَلْ تُكَذّبُونَ بِالدّينِ قال: بالحساب.
حدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: تُكَذّبُونَ بِالدّينِ قال: بيوم الحساب.
28283ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, قوله: بَلْ تُكَذّبُونَ بالدّينِ قال: يوم شدّة, يوم يدين الله العباد بأعمالهم.
وقوله: وَإنّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ يقول: وإن عليكم رُقَباء حافظين يحفظون أعمالكم, ويُحْصونها عليكم كِرَاما كاتِبِينَ يقول: كراما على الله كاتبين, يكتبون أعمالكم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
28284ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن علية, قال: قال بعض أصحابنا, عن أيوب, في قوله: وَإنّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِرَاما كاتِبِينَ قال: يكتبون ما تقولون وما تَعْنُون.
وقوله: يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ يقول: يعلم هؤلاء الحافظون ما تفعلون من خير أو شرّ, يحصون ذلك عليكم.
وقوله: إنّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ يقول جلّ ثناؤه: إن الذين برّوا بأداء فرائض الله, واجتناب معاصيه لفي نعيم الجنان ينعمون فيها.
الآية : 14-19
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{وَإِنّ الْفُجّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدّينِ * وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدّينِ * ثُمّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدّينِ * يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ }.
يقول تعالى ذكره: وَإنّ الفُجّارَ الذين كفروا بربهم لَفِي جَحِيمٍ.
وقوله: يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدّينِ يقول جلّ ثناؤه: يَصْلَى هؤلاء الفجار الجحيم يوم القيامة, يوم يُدان العباد بالأعمال, فيُجازَوْنَ بها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
28285ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: يَوْمَ الدّينِ من أسماء يوم القيامة, عظّمه الله, وحذّره عباده.
وقوله: وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ يقول تعالى ذكره: وما هؤلاء الفجار من الجحيم بخارجين أبدا فغائبين عنها, ولكنهم فيها مخلّدون ماكثون, وكذلك الأبرار في النعيم, وذلك نحو قوله: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ.
وقوله: وَما أدْرَاكَ ما يَوْمُ الدّينِ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وما أدراك يا محمد, أي وما أشْعرك ما يوم الدين؟ يقول: أيّ شيء يومُ الحساب والمجازاة, معظما شأنه جلّ ذكره, بقيله ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
28286ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَما أدْرَاكَ ما يَوْم الدينِ تعظيما ليوم القيامة, يوم تدان فيه الناس بأعمالهم.
وقوله: ثُمّ ما أدْرَاكَ ما يَوْمُ الدّينِ؟ يقول: ثم أيّ شيء أشعرك أيّ شيء يوم المجازاة والحساب يا محمد, تعظيما لأمره ثم فسّر جلّ ثناؤه بعض شأنه فقال: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئا: يقول: ذلك اليوم, يوم لا تملك نفس, يقول: يوم لا تُغني نفس عن نفس شيئا, فتدفع عنها بليّة نزلت بها, ولا تنفعها بنافعة, وقد كانت في الدنيا تحميها, وتدفع عنها من بغاها سوءا, فبطل ذلك يومئذٍ, لأن الأمر صار لله الذي لا يغلبه غالب, ولا يقهره قاهر, واضمحلت هنالك الممالك, وذهبت الرياسات, وحصل الملك للملك الجبار, وذلك قوله: وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ يقول: والأمر كله يومئذٍ, يعني الدين لله دون سائر خلقه, ليس لأحد من خلقه معه يومئذٍ أمر ولا نهي. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
28287ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ قال: ليس ثم أحد يومئذٍ يقضي شيئا, ولا يصنع شيئا إلاّ ربّ العالمين.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ والأمر والله اليوم لله, ولكنه يومئذٍ لا ينازعه أحد.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ فقرأته عامة قرّاء الحجاز والكوفة بنصب يَوْمَ إذ كانت إضافته غير محضة. وقرأه بعض قرّاء البصرة بضم «يَوْمُ» ورفعه ردّا على اليوم الأوّل, والرفع فيه أفصح في كلام العرب, وذلك أن اليوم مضاف إلى يفعل, والعرب إذا أضافت اليوم إلى تفعل أو يفعل أو أفعل رفعوه فقالوا: هذا يوم أفعل كذا, وإذا أضافته إلى فعل ماضٍ نصبوه ومنه قول الشاعر:
عَلى حِينَ عاتَبْتُ المَشِيبَ عَلى الصّبا وقُلْتُ ألَمّا تَصْحُ والشّيْبُ وَازِعُ؟

نهاية تفسير الإمام الطبري لسورة الإنفطار

سورة المطففين مكيّة
وآياتها ست وثلاثون
بسم الله الرحمَن الرحيـم

الآية : 1-6
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ * الّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنّ أُوْلَـَئِكَ أَنّهُمْ مّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ }.
يقول تعالى ذكره: الوادي الذي يسيل من صديد أهل جهنم في أسفلها للذين يُطَفّفون, يعني: للذين ينقصون الناس, ويَبْخَسونهم حقوقهم في مكاييلهم إذا كالوهم, أو موازينهم إذا وزنوا لهم عن الواجب لهم من الوفاء وأصل ذلك من الشيء الطفيف, وهو القليل النّزْر, والمطفّف: المقلّل حقّ صاحب الحقّ عما له من الوفاء والتمام في كيل أو وزن ومنه قيل للقوم الذين يكونون سواء في حسبة أو عدد: هم سواء كطَفّ الصاع, يعني بذلك: كقرب الممتلىء منه ناقص عن الملء. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
28288ـ حدثني أبو السائب, قال: حدثنا ابن فضيل, عن ضِرار, عن عبد الله, قال: قال له رجل: يا أبا عبد الرحمن, إن أهل المدينة لَيوفون الكيل, قال: وما يمنعهم من أن يوفوا الكيل, وقد قال الله: وَيْلٌ للْمُطَفّفِينَ حتى بلغ: يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ الْعالَمِينَ.
28289ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا الحسين بن واقد, عن يزيد, عن عكرِمة, عن ابن عباس, قال: لما قَدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً, فأنزل الله: وَيْلٌ لِلْمُطَفّفِينَ فأحسنوا الكيل.
28290ـ حدثني محمد بن خالد بن خداش, قال: حدثنا سلم بن قتيبة, عن قسام الصيرفي, عن عكرِمة قال: أشهد أن كلّ كيال ووزّان في النار, فقيل له في ذلك, فقال: إنه ليس منهم أحد يزن كما يتزن, ولا يكيل كما يكتال, وقد قال الله: وَيْلٌ لِلْمُطَفّفِينَ.
وقوله: الّذِينَ إذَا اكْتالُوا عَلى النّاسِ يَسْتَوفُونَ يقول تعالى ذكره: الذين إذا اكتالوا من الناس ما لهم قبلهم من حقّ, يستوفون لأنفسهم فيكتالونه منهم وافيا و«على» و«من» في هذا الموضع يتعاقبان غير أنه إذا قيل: اكتلت منك, يراد: استوفيت منك.
وقوله: وَإذَا كالُوهُمْ أوْ وَزَنُوهُمْ يقول: وإذا هم كالوا للناس أو وزنوا لهم. ومن لغة أهل الحجاز أن يقولوا: وزنتك حقك, وكلتك طعامك, بمعنى: وزنت لك وكلت لك. ومن وجّه الكلام إلى هذا المعنى, جعل الوقف على هم, وجعل هم في موضع نصب. وكان عيسى بن عمر فيما ذُكر عنه يجعلهما حرفين, ويقف على كالوا, وعلى وزنوا, ثم يبتدىء: هم يُخسرون. فمن وجّه الكلام إلى هذا المعنى, جعل هم في موضع رفع, وجعل كالوا ووزنوا مكتفيين بأنفسهما.
والصواب في ذلك عندي: الوقف على هم, لأن كالوا ووزنوا لو كانا مكتفيين, وكانت هم كلاما مستأنفا, كانت كتابة كالوا ووزنوا بألف فاصلة بينها وبين هم مع كل واحد منهما, إذ كان بذلك جرى الكتاب في نظائر ذلك, إذا لم يكن متصلاً به شيء من كنايات المفعول, فكتابهم ذلك في هذا الموضع بغير ألف أوضح الدليل على أن قوله: هُمْ إنما هو كناية أسماء المفعول بهم. فتأويل الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا, على ما بيّنا.
وقوله: يُخْسِرُونَ يقول: ينقصونهم. وقوله: ألا يَظُنّ أُولَئِكَ أنّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يقول تعالى ذكره: ألا يظنّ هؤلاء المطففون الناس في مكاييلهم وموازينهم, أنهم مبعوثون من قبورهم بعد مماتهم, ليوم عظيم شأنه, هائل أمره, فظيع هوله؟.
وقوله: يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ الْعالَمِينَ فيوم يقوم تفسير عن اليوم الأوّل المخفوض, ولكنه لما لم يعد عليه اللام, ردّ إلى مبعوثون, فكأنه قال: ألا يظنّ أولئك أنهم مبعوثون يوم يقوم الناس؟ وقد يجوز نصبه وهو بمعنى الخفض, لأنها إضافة غير محضة, ولو خفض ردّا على اليوم الأوّل لم يكن لحنا, ولو رفع جاز, كما قال الشاعر:
وكُنْتُ كَذي رِجْلَينِ: رِجلٍ صَحِيحةٍوَرِجْلٍ رَمى فِيها الزّمانُ فَشُلّتِ
وذُكر أن الناس يقومون لربّ العالمين يوم القيامة, حتى يُلْجِمَهم العرق, فبعض يقول: مقدار ثلاث مئة عام, وبعض يقول: مقدار أربعين عاما. ذكر من قال ذلك:
28291ـ حدثني عليّ بن سعيد الكنديّ, قال: حدثنا عيسى بن يونس, عن ابن عون, عن نافع, عن ابن عمر, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, في قوله: يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ الْعالَمِينَ قال: «يقوم أحدكم في رَشْحِه إلى أنصاف أذنيه».
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو خالد الأحمر, عن ابن عون, عن نافع, عن ابن عمر, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ الْعالَمِينَ قال: يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه.
حدثنا حميد بن مسعدة, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا ابن عون, عن نافع, قال: قال ابن عمر: يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ الْعالَمِينَ حتى يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه.
28292ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن محمد بن إسحاق, عن نافع, عن ابن عمر, قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ النّاسَ يُوقَفُونَ يَوْمَ الْقِيامَةِ لِعَظَمَةِ اللّهِ, حتى إنّ الْعَرَقَ لَيُلْجِمُهُمْ إلى أنْصَافِ آذَانِهِمْ».
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يونس بن بكير, عن محمد بن إسحاق, عن نافع, عن ابن عمر, قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ الْعالَمِينَ يَوْمَ الْقِيامَةِ لِعَظَمَةِ الرّحْمَنِ», ثم ذكر مثله.
حدثني محمد بن خَلَف العَسقلاني, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا حماد بن سلمة, عن أيوب, عن نافع, عن ابن عمر, قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاَية يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ الْعالَمِينَ قال: «يَقُومُونَ حتى يَبْلُغَ الرّشْحُ إلى أنْصَافِ آذانِهِمْ».
حدثنا أحمد بن محمد بن حبيب, قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا أبي, عن صالح, قال: حدثنا نافع, عن ابن عمر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ الْعالَمِينَ»: «يَومَ الْقِيامَةِ, حتى يَغِيبَ أحَدهُمُ إلى أنْصَافِ أُذُنَيْهِ فِي رَشْحِهِ».
28293ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة بن سعيد, عن محارب بن دِثار, عن ابن عمر, في قوله: يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ قال: يقومون مئة سنة.
حدثنا تميم بن المنتصر, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا محمد بن إسحاق, عن نافع, عن ابن عمر, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ الْعالَمِينَ يَوْمَ الْقِيامَةِ, حّتى إنّ الْعَرَقَ لَيُلْجِمُ الرّجُلَ إلى أنْصَافِ أُذُنَيْهِ».
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن نافع, عن ابن عمر, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, بنحوه.
حدثنا ابن المثنى وابن وكيع, قالا: حدثنا يحيى, عن عبد الله, عن نافع, عن ابن عمر, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ الْعالَمِينَ حتّى يَقُومَ أحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إلى أنْصَافِ أُذُنَيْهِ».
28294ـ حدثني محمد بن إبراهيم السّلِيْميّ المعروف بابن صدران, قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق, قال: حدثنا عبد السلام بن عجلان, قال: حدثنا يزيد المدني, عن أبي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبشير الغِفَاريّ: «كَيْفَ أنْتَ صَانِعٌ فِي يَوْمٍ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ الْعالَمِينَ مِقْدَارَ ثَلاثِ مِئَةِ سَنَةٍ مِنْ أيّامِ الدّنيْا, لا يأتِيهِمْ خَبرٌ مِنَ السّماءِ, وَلا يُؤْمَرُ فِيهِمْ بأمْرٍ؟» قال بشير: المستعان الله يا رسول الله, قال: «إذَا أنْتَ أوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ فَتَعَوّذْ باللّهِ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيامَةِ, وَسُوءِ الْحِسابِ».
28295ـ حدثني يحيى بن طلحة اليربوعيّ, قال: حدثنا شريك, عن الأعمش, عن المنهال بن عمرو, عن عبد الله بن مسعود في قوله: يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ الْعالَمِينَ قال: يمكثون أربعين عاما رافعي رؤوسهم إلى السماء, لا يكلمهم أحد, قد ألجم العرق كلّ برّ وفاجر, قال: فينادي منادٍ: أليس عدلاً من ربكم أن خلقكم ثم صوّركم, ثم رزقكم, ثم توليتم غيره, أن يولّي كلّ عبد منكم ما تولى في الدنيا؟ قالوا: بلى. ثم ذكر الحديث بطوله.
28296ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو بكر, عن الأعمش, عن المنهال بن عمرو, عن قيس بن سكْن, قال: حدث عبد الله, وهو عند عمر يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ الْعالَمِينَ قال: إذا كان يوم القيامة يقوم الناس بين يدي ربّ العالمين أربعين عاما, شاخصة أبصارهم إلى السماء, حفاة عراة يلجمهم العرق, ولا يكلّمهم بشر أربعين عاما, ثم ذكر نحوه.
28297ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ العالَمِينَ قال: ذُكر لنا أن كعبا كان يقول: يقومون ثلاث مئة سنة.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران وسعيد, عن قتادة يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ الْعالَمِينَ قال: كان كعب يقول: يقومون مقدار ثلاث مئة سنة.
28298ـ قال: قتادة: وحدثنا العلاء بن زياد العدويّ, قال: بلغني أن يوم القيامة يَقْصُر على المؤمن, حتى يكون كإحدى صلاته المكتوبة.
قال: ثنا مهران, قال: حدثنا العمريّ, عن نافع, عن ابن عمر, قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ الْعالَمِينَ قال: «يَقُومُ الرّجُلُ فِي رَشْحِهِ إلى أنْصافِ أُذُنَيهِ».
حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن عُلَية, عن ابن عون, عن نافع, عن ابن عمر, قال: يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ الْعالَمِينَ حتى يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه.
28299ـ قال يعقوب, قال إسماعيل: قلت لابن عون: ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث؟ قال: نَعَمْ إنْ شاءَ اللّهُ.
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن, قال: ثني عمي, قال: أخبرني مالك بن أنس, عن نافع, عن ابن عمر, أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ الْعالَمِينَ, حتى إنّ أحَدَهُمْ لَيَغِيبُ فِي رَشْحِهِ إلى نِصْفِ أُذُنَيْهِ»