تفسير الطبري تفسير الصفحة 598 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 598
599
597
 سورة القدر مكية
وآياتها خمس
بسم الله الرحمَن الرحيم
الآية : 1-5
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{إِنّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ * سَلاَمٌ هِيَ حَتّىَ مَطْلَعِ الْفَجْرِ }.
يقول تعالى ذكره: إنا أنزلنا هذا القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القَدْر, وهي ليلة الحُكْم التي يقضي الله فيها قضاء السنة وهو مصدر من قولهم: قَدَر الله عليّ هذا الأمْرَ, فهو يَقْدُر قَدْرا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
29116ـ حدثنا ابن المثنى, قال: ثني عبد الأعلى, قال: حدثنا داود, عن عكرِمة, عن ابن عباس, قال: نزل القرآن كله جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى السماء الدنيا, فكان الله إذا أراد أن يُحدث في الأرض شيئا أنزله منه حتى جمعه.
29117ـ حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عبد الوهاب, قال: حدثنا داود, عن عكرِمة, عن ابن عباس, قال: أنزل الله القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر, وكان الله إذا أراد أن يوحى منه شيئا أوحاه, فهو قوله: إنّا أنْزلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ.
قال: ثنا ابن أبي عديّ, عن داود, عن عِكرِمة, عن ابن عباس, فذكر نحوه, وزاد فيه. وكان بين أوّله وآخره عشرون سنة.
29118ـ قال: ثنا عمرو بن عاصم الكلابيّ, قال: حدثنا المعتمر بن سليمان التيميّ, قال: حدثنا عمران أبو العوّام, قال: حدثنا داود بن أبي هند, عن الشعبيّ, أنه قال في قول الله: إنّا أنْزلْناهُ في لَيْلَة الْقَدْرِ قال: نزل أوّلُ القرآن في ليلة القدر.
29119ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا حُصَين, عن حكيم بن جُبير, عن ابن عباس, قال: نزل القرآن في ليلة من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة, ثم فُرّق في السنين وتلا ابن عباس هذه الاَية: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النّجُومِ قال: نزل متفرّقا.
29120ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن عُلَية, عن داود, عن الشعبيّ, في قوله: إنّا أنْزلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ قال: بلغنا أن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا.
29121ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن سلمة بن كهيل, عن مسلم, عن سعيد بن جُبير: أنزل القرآن جملة واحدة, ثم أنزل ربنا في ليلة القدر: فِيها يُفْرَقُ كُلّ أمْرٍ حَكِيم.
29122ـ قال: ثنا جرير, عن منصور, عن سعيد بن جُبير, عن ابن عباس, في قوله إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ قال: أنزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر, إلى السماء الدنيا, فكان بموقع النجوم, فكان الله ينزله على رسوله, بعضُه في إثر بعض, ثم قرأ: وَقَالُوا لَوْلا نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتّلْناهُ تَرْتِيلاً وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
29123ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ليلة القدر: ليلة الحكم.
حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد إنّا أنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ قال: ليلة الحُكْم.
29124ـ قال: ثنا وكيع. عن سفيان, عن محمد بن سْوقَة, عن سعيد بن جُبير: يؤذن للحجاج في ليلة القدر, فيكتبون بأسمائهم وأسماء آبائهم, فلا يغادر منهم أحد, ولا يُزاد فيهم, ولا ينقص منهم.
29125ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن عُلَية, قال: حدثنا ربيعة بن كلثوم, قال: قال رجل للحسن وأنا أسمع: رأيت ليلة القدر في كلّ رمضان هي؟ قال: نعم, والله الذي لا إله إلا هو إنها لفى كلّ رمضان, وإنها لليلة القدر, فيها يُفرق كلّ أمر حكيم, فيها يقضي الله كلّ أجل وعمل ورزق, إلى مثلها.
29126ـ حدثنا أبو كُرَيب. قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن سعيد بن جُبَير, عن ابن عمر. قال: ليلة القدر في كلّ رمضان.
وقوله: وَمَا أدْرَاكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ يقول: وما أشعرك يا محمد أيّ شيء ليلة القدر خير من ألف شهر.
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك, فقال بعضهم: معنى ذلك: العمل في ليلة القدر بما يرضي الله, خير من العمل في غيرها ألفَ شهر. ذكر من قال ذلك:
29127ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, قال: بلغني عن مجاهد لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ قال: عملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر.
29128ـ قال: ثنا الحكم بن بشير, قال: حدثنا عمرو بن قيس الملائي, قوله: خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ قال: عملٌ فيها خير من عمل ألف شهر.
وقال آخرون: معنى ذلك أن ليلة القدر خير من ألف شهر, ليس فيها ليلة القدر. ذكر من قال ذلك:
29129ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ ليس فيها ليلة القدر.
وقال آخرون في ذلك ما:
29130ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حَكّام بن سلم, عن المُثَنّى بن الصّبّاح, عن مجاهد قال: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح, ثم يجاهد العدوّ بالنهار حتي يُمْسي, ففعل ذلك ألف شهر, فأنزل الله هذه الاَية: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ قيام تلك الليلة خير من عمر ذلك الرجل.
وقال آخرون في ذلك ما:
29131ـ حدثني أبو الخطاب الجاروديّ سُهيل, قال: حدثنا سَلْم بن قُتيبة, قال: حدثنا القاسم بن الفضل, عن عيسى بن مازن, قال: قلت للحسن بن عليّ رضي الله عنه: يا مسوّد وجوه المؤمنين, عمدت إلى هذا الرجل, فبايعت له, يعني معاوية بن أبي سفيان فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُرِي في منامه بني أميّة يَعْلُون منبره خليفة خليفة, فشقّ ذلك عليه, فأنزل الله: إنّا أعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ و إنّا أنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أدْرَاكَ ما لَيْلَةُ الْقَدرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ يعني مُلْكَ بني أمية قال القاسم: فحسبنا مُلْكَ بني أمية, فإذا هو ألف شهر.
وأشبه الأقوال في ذلك بظاهر التنزليل قول من قال: عمل في ليلة القَدْر خير من عمل ألف شهر, ليس فيها ليلة القَدْر. وأما الأقوال الأخر, فدعاوَى معانٍ باطلة, لا دلالة عليها من خبر ولا عقل, ولا هي موجودة في التنزيل.
وقوله: تَنَزّلُ المَلائِكَةُ وَالرّوحُ فِيها بإذْنِ رَبّهِمْ مِنْ كُلّ أمْرٍ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: معنى ذلك: تنزل الملائكة وجبريل معهم, وهو الروح, في ليلة القدر بإذْنِ رَبّهِمْ مِنْ كُلّ أمْرٍ يعني بإذن ربهم, من كلّ أمر قضاه الله في تلك السنة, من رزق وأجل وغير ذلك. ذكر من قال ذلك:
29132ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: مِنْ كُلّ أمْرٍ قال: يُقْضى فيها ما يكون في السنة إلى مثلها.
فعلى هذا القول منتهى الخبر, وموضع الوقف من كلّ أمر.
وقال آخرون: تَنَزّلُ المَلائِكَةُ وَالرّوحُ فِيها بإذْنِ رَبّهِمْ لا يلْقَون مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلّموا عليه. ذكر من قال ذلك:
29133ـ حُدّثت عن يحيى بن زياد الفرّاء, قال: ثني أبو بكر بن عياش, عن الكلبي, عن أبي صالح, عن ابن عباس: أنه كان يقرأ: «مِنْ كُلّ امْرِىءٍ سَلامٌ» وهذه القراءة من قرأ بها وجّه معنى مِن كلّ امرىء: من كلّ مَلَك كَانَ معناه عنده: تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كلّ مَلَك يُسلّم على المؤمنين والمؤمنات ولا أرى القراءة بها جائزة, لإجماع الحجة من القرّاء على خلافها, وأنها خلاف لما في مصاحف المسلمين, وذلك أنه ليس في مصحف من مصاحف المسلمين في قوله «أمر» ياء, وإذا قُرئت: «مِنْ كُلّ امْرىءٍ» لحقتها همزة, تصير في الخطّ ياء.
والصواب من القول في ذلك: القول الأوّل الذي ذكرناه قبل, على ما تأوّله قتادة.
وقوله: سَلامٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ سلام ليلة القدر من الشرّ كله من أوّلها إلى طلوع الفجر من ليلتها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
29134ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة سَلامٌ هِيَ قال: خير حَتى مَطْلَعِ الْفَجْرِ.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة مِنْ كُل أمْرٍ سَلامٌ هِيَ أي هي خير كلها إلى مطلع الفجر.
29135ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن جابر, عن مجاهد سَلامٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ قال: من كلّ أمرٍ سلام.
29136ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قول الله: سَلامٌ هِيَ قال: ليس فيها شيء, هي خير كلها حتى مَطْلَعِ الْفَجْرِ.
29137ـ حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقيّ, قال: حدثنا عبد الحميد الحِمّانيّ, عن الأعمش, عن المنهال, عن عبد الرحمن بن أبي لَيَلى, في قوله: مِنْ كُلّ أمْرٍ سَلامٌ هِيَ قال: لا يحدث فيها أمر.
وعُنِي بقوله: حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ: إلى مطلع الفجر.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: فقرأت ذلك عامة قرّاء الأمصار, سوى يحيى بن وثاب والأعمش والكسائيّ مَطْلَعِ الْفَجْرِ بفتح اللام, بمعنى: حتى طلوع الفجر تقول العرب: طلعت الشمس طلوعا ومَطْلَعا. وقرأ ذلك يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي: «حَتّى مَطْلِعِ الْفَجْرِ» بكسر اللام, توجيها منهم ذلك إلى الاكتفاء بالاسم من المصدر, وهم ينوون بذلك المصدر.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا: فتح اللام لصحة معناه في العربية, وذلك أن المطلَع بالفتح هو الطلوع, والمطلِع بالكسر: هو الموضع الذي تَطْلُع منه, ولا معنى للموضع الذي تطلع منه في هذا الموضع.

نهاية تفسير الإمام الطبرى لسورة القدر

سورة البينة مدنيّة
وآياتها ثمانٍ
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية : 1-4
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{لَمْ يَكُنِ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ حَتّىَ تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَةُ * رَسُولٌ مّنَ اللّهِ يَتْلُو صُحُفاً مّطَهّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ * وَمَا تَفَرّقَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيّنَةُ }.
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: لَمْ يَكُنِ الّذِينَ كَفَرُوا منْ أهل الْكِتابِ وَالمُشْرِكِينَ مُنْفَكّينَ حتّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَةُ فقال بعضهم: معنى ذلك: لم يكن هؤلاء الكفار من أهل التوراة والإنجيل, والمشركون من عَبدة الأوثان منفكين يقول: منتهين, حتى يأتيهم هذا القرآن. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
29138ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحرث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: مُنْفَكّينَ قال: لم يكونوا ليَنتهوا حتى يتبين لهم الحقّ.
29139ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: مُنْفَكّينَ قال: منتهين عما هم فيه.
29140ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله مُنْفَكّينَ حَتَى تأْتِيَهُمُ الْبَيّنَةُ: أي هذا القرآن.
29141ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قول الله: وَالمُشْرِكِينَ مُنْفَكّينَ قال: لم يكونوا منتهين حتى يأتيهم ذلك المنفَكّ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أن أهل الكتاب وهم المشركون, لم يكونوا تاركين صفة محمد في كتابهم, حتى بُعث, فلما بُعث تفرّقوا فيه.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: معنى ذلك: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين مفترقين في أمر محمد, حتى تأتيهم البيّنة, وهي إرسال الله إياه رسولاً إلى خلقه, رسول من الله. وقوله: مُنْفَكّينَ في هذا الموضع عندي من انفكاك الشيئين أحدهما من الاَخر, ولذلك صَلُح بغير خبر ولو كان بمعنى ما زال, احتاج إلى خبر يكون تماما له, واستؤنف قوله رَسُولٌ مِنَ اللّهِ وهي نكرة على البيّنة, وهي معرفة, كما قيل: ذُو الْعَرْشِ المَجِيدُ فَعّالٌ فقال: حتى يأتيهم بيان أمر محمد أنه رسول الله, ببعثه الله إياه إليهم, ثم ترجم عن البيّنة, فقال: تلك البينة رَسُولٌ مِنَ اللّهِ يَتْلُو صُحُفا مُطَهّرَةً يقول: يقرأ صحفا مطهرة من الباطل فِيها كُتُبٌ قَيّمَةٌ يقول: في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة عادلة مستقيمة, ليس فيها خطأ, لأنها من عند الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
29142ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة رَسُولٌ مِنَ اللّهِ يَتْلُو صُحُفا مُطَهّرَةً يذكر القرآن بأحسن الذكر, ويثني عليه بأحسن الثناء.
وقوله: وَما تَفَرّقَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيّنَةُ يقول: وما تفرّق اليهود والنصارى في أمر محمد صلى الله عليه وسلم, فكذّبوا به, إلا من بعد ما جاءتهم البينة, يعني: من بعد ما جاءت هؤلاء اليهود والنصارى البيّنةُ يعني: بيان أمر محمد, أنه رسول بإرسال الله إياه إلى خلقه يقول: فلما بعثه الله تفرّقوا فيه, فكذّب به بعضهم, وآمن بعضهم, وقد كانوا قبل أن يُبعث غير مفترقين فيه أنه نبيّ.
الآية : 5
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَمَآ أُمِرُوَاْ إِلاّ لِيَعْبُدُواْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصّلاَةَ وَيُؤْتُواْ الزّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ }.
يقول تعالى ذكره: وما أمر الله هؤلاء اليهود والنصارى الذين هم أهل الكتاب إلا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين يقول: مفردين له الطاعة, لا يخلطون طاعتهم ربهم بشرك, فأشركت اليهود بربها بقولهم إن عُزَيرا ابن الله, والنصارى بقولهم في المسيح مثل ذلك, وجحودهم نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: حُنَفاءَ قد مضى بياننا في معنى الحنيفية قبل, بشواهده المُغنية عن إعادتها, غير أنا نذكر بعض ما لم نذكر قبل من الأخبار في ذلك. ذكر من قال ذلك:
29143ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, في قوله: مخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفاءَ يقول: حجاجا مسلمين غير مشركين, يقول: وَيُقِيمُوا الصّلاةَ وَيُؤْتُوا الزّكَاة ويَحُجّوا وذَلكَ دِينُ الْقَيّمَةِ.
29144ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَما أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصينَ له الدّينَ حُنَفاءَ والحنيفية: الختان, وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات, والخالات, والمناسك.
وقوله: وَيُقِيمُوا الصّلاةَ وَيُؤْتُوا الزّكاةَ يقول: وليقيموا الصلاة, وليؤتوا الزكاة.
وقوله: وَذَلكَ دِينُ الْقَيّمَةِ يعني أن هذا الذي ذكر أنه أمر به هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين, هو الدين القيّمة, ويعني بالقيّمة: المستقيمة العادلة, وأضيف الدين إلى القيّمة, والدين هو القَيّم, وهو من نعته لاختلاف لفظيهما. وهي في قراءة عبد الله فيما أرى فيما ذُكر لنا: «وَذَلكَ الدّينُ الْقَيّمَةِ وأُنّثت القيّمة, لأنها جعلت صفة للملة, كأنه قيل: وذلك الملة القيّمة, دون اليهودية والنصرانية. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
29145ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله وَذَلكَ دِينُ الْقَيّمَةِ هو الدين الذي بعث الله به رسوله, وشرع لنفسه, ورضي به.
29146ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: كُتُبٌ قَيّمَةٌ وَذَلكَ دِينُ الْقَيّمَةِ قال: هو واحد قيّمة: مستقيمة معتدلة.
الآية : 6-7
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلَـَئِكَ هُمْ شَرّ الْبَرِيّةِ * إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أُوْلَـَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ }.
يقول تعالى ذكره: إن الذين كفروا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم, فجحدوا نبوّته, من اليهود والنصارى والمشركين جميعهم فِي نارِ جَهَنّمَ خالِدِينَ فيها يقول: ماكثين, لابثين فيها أبَدا لا يخرجون منها, ولا يموتون فيها أُولَئكَ هُمْ شَرّ البَرِيّةِ يقول جلّ ثناؤه: هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين, هم شرّ من بَرأَه الله وخلقه والعرب لا تهمز البرية, وبترك الهمز فيها قَرَأتها قرّاء الأمصار, غير شيء يُذكر عن نافع بن أبي نعيم, فإنه حكى بعضهم عنه أنه كان يهمزها, وذهب بها إلى قول الله: مِنْ قَبْلِ أنْ نَبْرأَها وأنها فعيلة من ذلك. وأما الذين لم يهمزوها, فإن لتركهم الهمز في ذلك وجهين: أحدهما أن يكونوا تركوا الهمز فيها, كما تركوه من المَلَك, وهو مفعل من ألك أو لأك, ومن يرى, وترى, ونرى, وهو يفعل من رأيت. والاَخر: أن يكونوا وجّهوها إلى أنها فعيلة من البَرَى وهو التراب. حُكي عن العرب سماعا: بفيك البَرَى, يعني به: التراب.
وقوله: إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيّةِ يقول تعالى ذكره: إن الذين آمنوا بالله ورسوله محمد, وعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء, وأقاموا الصلاة, وآتُوا الزكاة, وأطاعوا الله فيما أمر ونهى أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيّةِ يقول: من فعل ذلك من الناس فهم خير البرية. وقد:
29147ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا عيسى بن فرقد, عن أبي الجارود, عن محمد بن عليّ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ البٌرِيّةِ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أنْتَ يا عَليّ وَشِيعَتُكَ»