بحث كامل عن الطلاق في الاسلام

بحث كامل عن الطلاق في الاسلام

الطلاق

الفَصل الأول 

التعريف وحكمة تشريعه ولمن يكون حق الطلاق وصفته الشرعية:

  1. الحكمة في مشروعية الطلاق.
  2. لمن يكون حق الطلاق؟
  3. حكم الطلاق بمعنى صفته الشرعية.
  4. ركن الطلاق.
  5. ألفاظ الطلاق:
  6. من يقع منه الطلاق، ومن يقع عليها.
  7. الطلاق الذي يملكه الزوج.
  8. الطريقة التي يوقع بها الطلاق.
  9. أنواع الطلاق:
  10. الطلاق الثلاث بلفظ واحد.
  11. تقسيم الطلاق إلى: منجز ومضاف ومعلق.
  12. تقسيم الطلاق إلى: الرجعي والبائن

تعريف الطلاق:

      مادة الطلاق والإطلاق في اللغة: تدل على الإرسال ورفْع القيد والمفارقة. يقال : أطلق الأسير إذا أرسله ورفع قيده، وطلق بلده إذا فارقها، وطلق زوجته أي فارقها وحل رباط الزوجية، وإن كان العرف يخص الطلاق برفع القيد المعنوي، والإطلاق برفع القيد الحسي.

      فالطلاق في الاصطلاح: هو حل رابطة الزوجية الصحيحة من جانب الزوج بلفظ مخصوص أو ما يقوم مقامه في الحال أو المآل.

      فاللفظ المخصوص هو ما كان صريحاً في الطلاق أو كناية عنه مما يحتاج إلى نية، والذي يقوم مقامه الكتابة والإشارة، والذي يحلها في الحال هو الطلاق البائن، والذي يحلها في المآل هو الطلاق الرجعي، والطلاق مشروع بالقرآن والسنة والإجماع.

الحكمة في شرعية الطلاق:

      إن الإسلام شرع الزواج وجعله عقد الحياة حتى جعل التوقيت فيه مبطلاً له، وأحاطه بكل الضمانات ليستقر فيؤتي ثمراته الطيبة، وهو لا يكون كذلك إلا إذا تحقق التوافق بين الطرفين وسكن كل منهما إلى صاحبه وارتبط قلباهما برباط المودة، وشاعت بينهما الثقة وعرف كل منهما ما للآخر عليه من حقوق.

      وقد يطرأ على تلك الحياة الشقاق المنبعث من تنافر القلوب بعد توافقها من انحراف جديد، أو انكشاف ما قد يخفى عند الاقتران مما يبدل الثقة، أو إصابة أحدهما بمرض لا تستطاع معه المعاشرة مما يجعل الحياة جحيماً لا يطاق أو عذاباً لا يحتمل.

      نظر الشارع إلى ذلك لأنه دين واقعي يشرع للناس حسبما يقع في حياتهم ولا يغمض عينه عن مشاكل الحياة فيوجد لها الحلول ففتح المجال لإنهاء الزوجية عندما تتعرض للخطر الذي يتعذر معه الاستمرار فيها، فكانت شرعية الطلاق ليحسم ذلك الداء بعد عجز طرق الإصلاح العديدة التي أرشد إليها من تأديب وإصلاح داخلي وإصلاح على مستوى الجماعة، ومع ذلك جعله أبغض الحلال إلى الله.

لمن يكون حق الطلاق؟

      والطلاق في الأصل حق للزوج، لأن النصوص من القرآن والسنة أسندته إلى الرجل. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} [النساء: 20].

      وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله بن عمر طلق زوجتك" وقوله "مرة فليراجعها. ثم يطلقها، فهذه النصوص صريحة كل الصراحة في أن الطلاق حق للزوج، وليس ذلك غبناً للمرأة بل هو حفاظ عليها وتقديس للرابطة الزوجية، لأن الشارع الذي أوجب على الزواج المهر وجعله مسؤولاً عن الأسرة يسعى من أجلها ويقوم بواجباتها، والرجل بطبيعته أضبط لمشاعره من المرأة فيكون أحرص على بقاء الزوجية لما تحمله من نفقات وتجنباً للتبعات المالية التي تلحقه بسبب الطلاق من مؤخر الصداق ونفقة العدة، ومن مهر جديد ونفقات أخرى إذا ما رغب في التزوج مرة أخرى.

      ولو جعل الطلاق بيد المرأة لاضطربت الحياة الزوجية ولما استقر لها قرار لسرعة تأثرها واندفاعها وراء العاطفة، وليس هناك ما يحملها على التروي والأناة حيث لا تغرم شيئاً.

      على أن الشارع لم يهمل جانبها، بل جعل لها الحق في أن تفتدي نفسها برد ما دفعه الزوج لها من مهر {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229].

      كما جعل لها أن ترفع أمرها إلى القاضي ليطلقها من زوجها إذا ما انحرف وألحق بها ما يوجب التفريق من أذى أو عدم إنفاق، وأوجب على القاضي أن يجيبها إلى طلبها إذا ما ثبت لديه ما تدعيه.

      وأكثر من هذا جعل لها الحق في أن تشترط لنفسها عند العقد أن تكون العصمة بيدها كما يرى بعض الفقهاء.

حكم الطلاق: بمعنى صفته الشرعية:

      وإذا كان الأصل فيه هو الحظر وأنه لا يجوز الإقدام عليه إلا لسبب والأسباب تختلف في قوتها وضعفها، ومن هنا اختلفت صفة الطلاق الشرعية باختلاف البواعث عليه.

      فقد يكون مباحاً يستوي فيه جانب الفعل والترك إذا كان الباعث عليه ضعيفاً كمجرد النفور الطبيعي بين الزوجين.

      وقد يكون مستحباً إذا كان الدافع له سوء أخلاق الزوجة وإيقاعها الأذى بزوجها أو أقاربه أو جيرانه بالقول أو بالفعل أو كانت تاركة لحقوق الله من صلاة وصيام، فإنها بسلوكها هذا تكون قدوة سيئة لأولادها ويخشى عليهم من أن يشبوا على منهجها فيستحب طلاقها.

      وقد يكون واجباً إذا كان الباعث عليه أمراً يقوض الحياة الزوجية كتهاونها في عرضها وشرفها وبسلوكها المسالك المريبة، أو استحكام الشقاق بين الزوجين وعجز الحكمان عن الإصلاح بينهما.

      أو كان بالزوج عيب يحول بين الحياة الزوجية وبين أدائها وظيفتها ككونه عنيناً أو مجبوباً أو ما شاكل ذلك.

      وقد يكون مكروهاً تحريماً إذا لم يكن له سبب يبرره.

      وقد يكون حراماً إذا وقع على غير الوجه المشروع بأن طلقها في الحالة التي نهى الشارع عن الطلاق فيها، كالطلاق في الحيض قاصداً الإضرار بها وتطويل عدتها.

الفَصل الثّاني

في ركن الطلاق، ومن يقع منه، ومن يقع عليها، وطريقة إيقاعه

المبحث الأول

ركن الطلاق وبم يتحقق؟

      المراد بالركن هو اللفظ الذي يفيد معنى الطلاق أو ما يقوم مقامه من الكتابة والإشارة. فيكون الطلاق بواحد من ثلاثة: العبارة والإشارة والكتابة.

      أما العبارة: فهي اللفظ الذي يدل على حل رابطة الزوجية بحيث يفهم منه التطليق لغة أو عرفاً بأي لغة كانت سواء كان اللفظ صريحاً أو كناية وسواء كان منجزاً أو معلقاً أو مضافاً بشرط أن يكون المتكلم بها فاهماً لمعناها.

      أما الإشارة: فلا يقع بها الطلاق إلا من الأخرس العاجز عن الكتابة على الرأي الراجح عند الحنفية، فإن كان قادراً على الكتابة فلا يقع طلاقه بالإشارة، لأن الكتابة أقوى في الدلالة من الإشارة.

      أما الكتابة: فإما أن تكون مستبينة أي واضحة باقية كالكتابة على الورق أو على الحائط مثلاً أو غير مستبينة كالكتابة على الهواء أو في الماء.

      والمستبينة إما أن تكون مرسومة أي معنونة موجهة للزوجة كما توجه الرسائل أولاً، فإن كانت غير مستبينة فلا يقع بها طلاق، وإن كانت مستبينة مرسومة وقع بها الطلاق من وقت الكتابة إلا إذا قيد الوقوع بزمن الوصول أو غيره. فإنه يقع من الوقت الذي حدده سواء نوى بها الطلاق عند الكتابة أو لا.

      أما المستبينة الغير المرسومة كأن يكتب على ورقة: فلانة طالق ولا يرسلها إليها أو يكتب على جدار، طلقت زوجتي فإنه لا يقع بها الطلاق إلا إذا نواه، فإن لم ينوه بأن قال: أردت تجربة القلم أو الخط فلا يقع لظهور هذا الاحتمال في تلك الحالة.

      وإذا كان الحنفية يوسعون في الألفاظ التي يقع بها الطلاق ولا يقصرونها على الألفاظ الصريحة فإن اللفظ الذي يقع به الطلاق عندهم نوعان:

      صريح وكناية.

فالصريح:

      هو اللفظ الذي يفهم منه معنى الطلاق عند التلفظ به دون حاجة إلى شيء آخر. فيدخل فيه الألفاظ التي وضعت شرعاً للطلاق. نحو أنت طالق وطلقتك ومطلقة، والألفاظ التي تستعمل عرفاً في الطلاق مثل: أنت محرمة وحرمتك وأنت علي حرام وأنت خالصة.

      وحكمه: أن الطلاق يقع به قضاء وديانة دون توقف على نية أو قرينة، لأن صراحته لا تحوجه في الدلالة إلى شيء آخر وراء اللفظ، متى قصد التلفظ به عالماً بمدلوله وأضافه إلى زوجته.

      فإذا قال لزوجته: أنت طالق ثم ادعى أنه لم يرد به الطلاق بل أراد به شيئاً آخر لا يحتمله اللفظ لا يلتفت إلى دعواه ووقع الطلاق قضاء وديانة، فإن ادعى أنه أراد به الطلاق من وثاق ولم توجد قرينة تدل على ذلك صُدِّق ديانة لا قضاء، فلو وجدت تلك القرينة، كما لو أكره على الطلاق فنطق بكلمة الطلاق ثم ادعى أنه أراد الطلاق من وثاق فإنه يصدق في ذلك قضاء وديانة، لأن الإكراه قرينة صارفة عن إرادة الطلاق، ومثل ذلك ما إذا كانت زوجته موثقة بقيد وسألته أن يطلقها من وثاقها فيطلقها منه قائلاً لها: أنت طالق فإنه يصدق إذا أقسم أنه أراد ذلك.

والكناية:

      هي كل لفظ لم يوضع لمعنى الطلاق ولم يتعارف الناس قصر استعماله على الطلاق مثل: إلحقي بأهلك أو اذهبي إليهم، فإنه يحتمل الحقي بهم لأني طلقتك أو ابعدي عني الآن، ومثل أنت بائن أو أمرك بيدك، وأنت واحدة واستبرئي رحمك وغير ذلك من الألفاظ التي لا يفهم منها الطلاق إلا بالقرينة أو بالنية.

      وحكمها: أن الطلاق لا يقع بها إلا بالنية أو دلالة الحال على أنه أراد بها الطلاق، فإن دل الحال على إرادة الطلاق كما إذا قال ذلك حالة الغضب أو بعد سؤال زوجته الطلاق وقع، وإن لم يدل الحال رجع إلى نية الزوج، فإن نوى بها الطلاق وقع، وإن لم ينو لا يقع بها شيء.

      فمذهب الحنفية: أن تلك الألفاظ لا يقع بها الطلاق ديانة إذا لم ينو بها الطلاق، أما في القضاء فيحكم دلالة الحال، فإن دلت على إرادة الطلاق وقع ولا يصدق في دعواه أنه لم يرد بها الطلاق، فإن لم تدل الحال على إرادة الطلاق اعتبرت النية، فإن قال : نويت بها الطلاق وقع، وإن ادعى أنه لم ينو بها الطلاق في دعواه.

المبحث الثاني 

78-  من يقع منه الطلاق، ومن يقع عليها:

      من يقع منه الطلاق: الطلاق حق للزوج فهو الذي يملك إيقاعه، لأن عقدة الزواج ملكه ولا يملكه غيره إلا بتفويض منه كرسوله أو وكيله أو المرأة التي فوض لها الطلاق أو بالنيابة عنه عند امتناعه كالقاضي، فأن الأولين يطلقون باسم الزوج، والأخير يطلق عن الزوج دفعاً لظلمه بامتناعه عن الطلاق.

      ولما كان الطلاق خطيراً لا يملكه الزوج إلا إذا توفرت فيه الشروط الآتية:

أن يكون بالغاً، فلو كان صغيراً لا يقع طلاقه وإن كان مميزاً باتفاق الحنفية، لأن الطلاق من التصرفات التي يغلب عليها الضرر وهو لا يملك منها إلا ما كان نافعاً.

أن يكون عاقلاً: فلا يقع طلاق المجنون وهو من ذهب عقله، والمعتوه وهو ضعيف العقل الذي اختلط كلامه وفسد تدبيره، ومن اختل عقله لكبر أو مرض أو مصيبة.

      ويلحق بهم المدهوش وهو الذي اعترته حالة انفعال لا يدري فيها ما يقول ويفعل، والغضبان الذي بلغ به الغضب درجة تختل فيها أقواله وأفعاله وتضطرب، أما إذا كان بحيث يدري ما يقول ويفعل فإن طلاقه يقع.

      كل ذلك لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق في إغلاق" والإغلاق هو أن يسد على الشخص باب الإدراك والقصد بحيث لا يدري ما يقول وما يفعل.

      ومقتضى هذا لا يكون للسكران طلاق لأنه لا يعي ما يقول، وإلى هذا ذهب جماعة من الفقهاء من غير تفرقة بين ما إذا كان سبب السكر مباحاً أو محرماً لعدم إدراكه.

      وذهب آخرون إلى التفرقة بين ما كان سببه مباحاً فلا يقع وبين ما إذا كان محرماً فيقع طلاقه عقوبة له وزجراً عن تناول المحرم، لكن العقوبة هنا غير مستساغة لأن الشارع قرر له عقوبة أخرى، على أنه إذا كان السكران يستحق العقوبة فما ذنب الزوجة وأولادها الذي يلحقهم ضرر الطلاق.

      3- ألا يكون مكرهاً عند جمهور الفقهاء -المالكية والشافعية والحنابلة- لحديث "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".

      ولأن المكره وإن تكلم باللفظ المفيد للطلاق إلا أنه لم يقصد الطلاق وإنما قصد دفع الأذى عن نفسه فيكون اختياره للطلاق فاسداً فلا يعتبر.

      والحنفية لم يشترطوا عدم الإكراه، لأن الإكراه عندهم يفسد الرضا دون الإختيار، فالمكره حين تكلم بكلمة الطلاق كان له اختيار. فقد وازن بين الأمرين التلفظ بالطلاق ووقوع ما هدد به فاختار أهونهما، فهو مختار في التكلم لكنه غير راض بالأثر الذي يترتب عليه فيقع طلاقه كالهازل الذي قصد اللفظ ولم يقصد ترتب الأثر عليه، وطلاق الهازل واقع بالحدث "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد؛ النكاح والطلاق والرجعة" وفي رواية العتاق بدل الرجعة.

      كما لا يشترط أن يكون جاداً فيقع طلاق الهازل.

      أما المخطيء وهو الذي يريد أن ينطق بكلام غير الطلاق فيجري على لسانه الطلاق بغير قصد كأن يقصد أن يقول لزوجته: أنت لطيفة أو مهذبة فيجري على لسانه: أنت طالق.

      والحنفية يقولون: إنه لا يقع طلاقه ديانة أي بينه وبين الله فيحل له البقاء مع زوجته، ولكنه يقع قضاء بمعنى أنه لو اختلف الزوجان فقالت له: طلقت، وقال لا لم أقصد طلاقاً. حكم القاضي بوقوع الطلاق لأنه يحكم بناء على الظاهر، ولو قبل القاضي دعوى الخطأ لانفتح باب التحايل.

      والفرق عندهم بين المخطئ والهازل: أن الهازل قصد النطق بكلمة الطلاق، ولكنه لم يقصد ترتب الأثر عليها، ومثل هذا يلهو في موضع الجد فاستحق العقاب بإلزامه أثر ما قصد منه، أما المخطئ فلم يقصد النطق بالكلمة أصلاً وبالتالي لم يقصد ترتب أثرها عليها فلم يكن منه ما يستحق عليه العقاب فافترقا، ومن هنا قالوا: إن من لقن كلمة الطلاق فنطق بها وهو لا يعرف معناها لا يقع طلاقه لأنه وإن قصد النطق بها إلا أنه لا يعي مدلولها ولا ما تستعمل فيه فكانت لغواً.

      - من يقع عليها الطلاق:

      إذا كان الطلاق يرفع قيد النكاح ويحل رابطة الزوجية فلا بد أن تكون المرأة المطلقة في زوجية قائمة حقيقة أو حكماً ولو قبل الدخول، فالمعقود عليها عقداً صحيحاً محل للطلاق قبل الدخول وبعده كذلك المعتدة من طلاق رجعي أو بائن بينونة صغرى ما دامت في العدة، لأن الزواج باق حكماً أثناء العدة، أما الرجعية فظاهر لأن ملك الاستمتاع قائم، وأما البائنة فلأن بعض أحكام قائمة كوجوب النفقة وبقائها في منزل الزوجية وعدم حل زواجها من آخر، وكذلك المعتدة من كل فرقة اعتبرت طلاقاً، أما المعتدة من طلاق بائن بينونة كبرى فليست محلاً للطلاق لانتهاء الملك والحل، وكذلك المطلقة قبل الدخول لأنه لا عدة عليها، والمعتدة من فرقة اعتبرت فسخاً بحكم الشرع، كالفرقة بخيار البلوغ أو الإفاقة أو لعدم كفاءة الزوج أو نقصان المهر، لأن الفسخ نقض للعقد، وإذا انتقض العقد لم يكن له وجود حتى يلحقه طلاق.

      ولا يستثنى من ذلك عند الحنفية إلا المعتدة من فسخ زواجها بسبب ردة أحد الطرفين أو إباء الزوجة المشركة عن الإسلام بعد إسلام زوجها، فإنه يقع عليها الطلاق في العدة على ما هو الراجح من المذهب وكذلك لا يقع الطلاق على المعقود عليها فاسداً أو باطلاً، هذا هو مذهب الحنفية ومن وافقهم.

المبحث الثالث 

في الطلاق الذي يملكه الزوج:

      حدد الإسلام للطلاق عدداً ينتهي عنده، وهو ثلاث تطليقات في قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ...[البقرة: 229] إلى أن قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}، بعد أن كان في الجاهلية لا يقف عند حد، وكان ظلماً صارخاً للمرأة فحماها بهذا التحديد وجعله ثلاثاً للزوج أن يراجع زوجته في الأوليين منهما محافظة على رباط الزوجية من أن ينقطع مرة واحدة، ودفعاً للحرج الذي قد يلحق بالأزواج الذين يتسرعون في إيقاع الطلاق، ولو جعله مرة واحدة لوقع كثير من الأزواج في الحرج فيما إذا صدر الطلاق لأمر عارض ثم زال أو لنفرة طارئة ثم تبدلت الأحوال وزالت النفرة.

الطريقة التي يوقع بها الطلاق:

      والشارع الذي ملك الرجل الطلاق وحدده بثلاث مرات لم يتركه ليوقعه كيف شاء ومتى شاء، بل رسم له طريقة إيقاعه وأرشده إلى اتباعها ونهاه عن مخالفتها.

      ففي الآية السابقة بين له:

      أول خطوة يخطوها في إيقاعه، وهي أن يكون مفرقاً "الطلاق مرتان" أي مرة بعد مرة.

      يدل لذلك أنه لما طلق رجل امرأته ثلاثاً دفعة واحدة غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطب الناس فقال: "أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم".

      والخطوة الثانية جاءت في الحديث الذي رواه الجماعة إلا الترمذي أن عبد الله بن عمر طلق امرأة له وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء". فهذا الحديث يدل على أن الطلاق في الحيض غير مشروع لغضب رسول الله، ويرشد إلى أن الطلاق المشروع هو ما يكون في طهر لم يمسها فيه.

      والحكمة في أنه لابد من مراعاة وقت الطلاق بألا يكون في الحيض أو في الطهر الذي مسها فيه أن حالة الحيض منفرة، فالطلاق فيها لا يدل على وجود الحاجة الداعية إلى الطلاق فوق أن الطلاق في هذه الحالة يلحق الضرر بالمرأة حيث يطول عليها العدة، لأن الحيضة التي وقع فيها الطلاق لا تحتسب منها، وإن مخالطة المرأة تفتر الرغبة فيها فطلاقها بعد ذلك لا يدل على تحقق الحاجة إلى الطلاق مع أنه يوقع المرأة في الحيرة في أمر عدتها حيث لا تدري أحملت من تلك المواقعة فتعتد بوضع الحمل أم لم تحمل فتعتد بالأقراء، هذا مع ما يلحق الرجل من الندم إذا ما تبين له أن امرأته حامل، أما طلاقها في طهر لم يمسها فيه فيدل على وجود الحاجة إلى الطلاق حيث أقدم عليه في هذا الوقت الذي تتوق فيه نفس الرجل إلى المرأة.

      وهذا إنما يكون في المرأة المدخول بها، أما غير المدخول بها فالرغبة فيها موجودة في أي وقت والحيض لا يقلل رغبته فيها حيث لم يلتق بها بعد.

ومن هنا قسم العلماء الطلاق إلى نوعين طلاق السنة وطلاق البدعة:

      وجعلوا طلاق السنة هو الذي يجيء على الطريقة التي رسمه الشارع، وطلاق البدعة هو الطلاق الذي جاء على خلافها بأن يطلق أكثر من واحدة أو على دفعات في طهر واحد، أو يطلقها في أثناء الحيض أو النفاس أو في طهر واقعها فيه.

      وهذا الطلاق المخالف للسنة حرام، ومن يفعله يكون آثماً بلا خلاف في ذلك، ولكنهم اختلفوا في وقوعه:

      فذهب الأئمة الأربعة -الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي- إلى وقوعه، لأن النهي عنه ليس لذاته، وإنما لمعنى يصاحبه وهو تطويل العدة على المرأة، أو ندم الرجل عليه، أو كونه ليس لحاجة، ومثل هذا لا يمنع من ترتب الأثر عليه، كالبيع وقت النداء يوم الجمعة فإنه منهى عنه ومع ذلك لو تم البيع ترتب عليه أثره.

      ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر بمراجعة زوجته، والرجعة لا تكون إلا بعد وقوع الطلاق، وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث أن عبد الله قال: "فحسبت عليَّ طلقة".

المبحث الرابع 

الطلاق الثلاث بلفظ واحد:

      ذهب أصحاب المذاهب الأربعة إلى وقوعه ثلاثاً: سواء كانت المرأة مدخولاً بها أو لا إذا كان مقروناً بلفظ الثلاثة أو مدلولاً عليه بالإشارة، كأنت طالق وأشار إليها بأصابع ثلاثة مرفوعة، وكذلك إذا كرر اللفظ أنت طالق أنت طالق وكانت المرأة مدخولاً بها، لأن الأولى وقعت عليها وهي زوجة ووقع الباقي عليها في عدتها.

      وأما إذا كانت غير مدخول بها فيقع عليها واحدة فقط، لأنها تبين منه بها لا إلى عدة فجاءت الثانية والثالثة والمرأة أجنبية فلا يقع بهما شيء.

الفَصْلُ الثَّالِث

في تقسيمات الطلاق

المبحث الأول

تقسيمه إلى منجز ومعلق ومضاف:

      ينقسم الطلاق باعتبار تقييد الصيغة وإطلاقها إلى منجز ومضاف ومعلق.

      فالمنجز: هو الذي صدرت صيغته مطلقة غير معلقة على حصول أمر آخر ولا مضافة إلى زمن مستقبل مثل أن يقول لها: أنت طالق أو طلقتك.

      حكم المنجز: وقوع الطلاق به بمجرد صدوره، لأن الشارع وضعه ليفيد أثره عقب صدوره ممن هو أهل لإيقاع الطلاق على امرأة هي محل لوقوعه بأن تكون زوجة حقيقة أو حكماً.

      والمضاف: هو الذي صدرت صيغته مقيدة بوقت مستقبل قصد المطلق وقوع الطلاق فيه. بأن ربط حصوله بذلك الزمن بغير أداة من أدوات الشرط، كأن يقول الزوج لزوجته أنت طالق أول العام القادم أو أنت طالق غداً.

      حكم المضاف: وقوع الطلاق به عند مجيء ذلك الوقت المضاف إليه لا قبله إذا كان الرجل أهلاً للطلاق عند صدور الصيغة منه، والمرأة محلاً لوقوع الطلاق عليها عند حلول ذلك الوقت، فلو قال أنت طالق في أول العام القادم ثم طلقها منجزاً فإذا جاء الزمن المضاف إليه وهي في العدة وقع عليها الطلاق المضاف فإذا كانت عدتها قد انتهت لا يقع عليه شيء.

      وكذلك إذا أضاف الطلاق وهو أهل للطلاق ثم جاء الوقت المضاف إليه وهو مجنون وقع الطلاق لأن العبرة بأهليته عند التلفظ بالطلاق.

      والمعلق: هو ما ربط فيه حصول الطلاق بأمر سيحصل في المستقبل بأن رتب وقوعه على حصول ذلك الأمر بأداة من أدوات الشرط أو ما في معناها، كإن وإذا وكلما ومتى ونحوها. كأن يقول لامرأته: إن سافرت في هذا اليوم فأنت طالق، أو متى حضر فلان لزيارتنا فأنت طالق، وكلما خرجت بدون إذني فأنت طالق.

      والتعليق نوعان: تعليق لفظاً ومعنى، وتعليق معنى فقط:

      فالأول: وهو ما ربط فيه وقوع الطلاق بحصول أمر في المستقبل بأداة من أدوات الشرط سواء كان الأمر المعلق عليه اختيارياً يمكن فعله أو الامتناع عنه أو غير اختياري.

      والاختياري قد يكون من أفعال الزوجة نحو: إن خرجت بدون إذني أو كلمت فلاناً فأنت طالق، وقد يكون من أفعال الزوج نحو: إن لم أسافر اليوم فأنت طالق، وقد يكون من فعل غيرهما. نحو إن لم يسافر أخوك اليوم فأنت طالق.

      وغير الاختياري نحو: إن أمطرت السماء فأنت طالق، أو إن ولدت أنثى فأنت طالق، فإن كان المعلق عليه من فعل أحد الزوجين سمي تعليقاً ويسمى يميناً أيضاً لأنه يفيد ما يفيده اليمين من الحمل أو الامتناع عنه، وإن كان المعلق عليه من فعل غيرهما أو كان أمراً غير اختياري فهو تعليق بالاتفاق، ولكنهم اختلفوا في تسميته يميناً. فمن الفقهاء من يسميه يميناً لوجود الصورة وهي الشرط والجزاء، ومنهم من لا يسميه يميناً لأنه لا يفيد ما يفيده اليمين وهو الأشبه بالفقه.

      والثاني: وهو التعليق في المعنى فقط وهو ما يفهم منه التعليق بدون ذكر أداة من أدواته نحو قول الزوج: عليّ الطلاق أو يلزمني الطلاق لا أفعل كذا، فإنه في معنى. إن فعلت كذا فزوجتي طالق، وكقوله: علي الطلاق لأسافرن اليوم فإنه في معنى إن لم أسافر اليوم فامرأتي طالق، فإذا لم يتحقق السفر في هذا اليوم وقع الطلاق، وهذا الذي يسمى بالحلف بالطلاق أو اليمين بالطلاق.

      حكم التعليق: والتعليق بنوعيه يقع به الطلاق إن وقع المعلق عليه عند الحنفية بعد أن تتحقق شروط صحته بأن يكون المعلق عليه معد وما ممكن الحصول، فإن كان معدوماً مستحيل الوجود كان لغواً، كما إذا قال لها: إن جاء أبوك يجر أكفانه فأنت طالق، أو إن شربت ماء هذا البحر كله فأنت طالق.

      وكذلك لو علقه على مشيئة الله تعالى، كأن يقول لها: أنت طالق إن شاء الله، لأن المعلق عليه أمر لا طريق إلى التحقق من وجوده فكان لذلك كالتعليق على المستحيل.

      وأن يحصل المعلق عليه والمرأة محل للطلاق كأن تكون زوجة حقيقة أو حكماً وقد وافق الحنفية في ذلك جمهور الفقهاء.

المبحث الثاني

تقسيمه إلى الرجعي والبائن:

      ينقسم الطلاق باعتبار إمكان الرجعة بعده من غير عقد جديد وعدم إمكانها إلى رجعي وبائن:

      فالرجعي: هو الذي يملك الزوج بعد إيقاعه إعادة مطلقته في عدتها إلى الزوجية من غير حاجة إلى عقد جديد رضيت بذلك الزوجة أو لا.

      والبائن: هو الذي لا يملك بعده الزوج إعادة الزوجية بالرجعة. وهو نوعان :

      1- بائن بينونة صغرى. وهو الذي يستطيع إعادة المطلقة بعده بعقد جديد سواء كان ذلك في العدة أو بعدها.

      2- بائن بينونة كبرى. وهو الذي لا يستطيع إعادتها إلا بعد تزوجها بزوج آخر ويدخل بها وينتهي زواجه بطلاق أو بموت.

      ما يقع به كل من الرجعي والبائن:

      مذهب الحنفية بكل لفظ صريح بعد الدخول الحقيقي إذا كان مجرداً عن وصفه بما يفيد البينونة كوصف الشدة أو القوة أو الطويلة أو البينونة أو تملكين بها نفسك ولم يكن على مال أو مكملاً للثلاث.

      وكذلك كل لفظ من ألفاظ التي لا تفيد فصل الزوجية، كاعتدي واستبرئي رحمك وأنت واحدة إذا نوى بها الطلاق.

      ويقع البائن بما سوى ذلك في الحالات الآتية:

      1- إذا كان قبل الدخول بأي لفظ ولو بعد الخلوة الصحيحة وإن وجبت عليها العدة لأنها وجبت للاحتياط للمراجعة.

      2- إذا كان بلفظ صريح موصوف بما يفيد البينونة كأنت طالق طلقة قوية أو شديدة أو بائنة أو تملكين بها نفسك أو أشد الطلاق أو مثل الجبل.

      3- إذا كان في مقابلة عوض عن المرأة، لأنها لم تدفع العوض إلا لتخلص لها نفسها.

      4- إذا كان مكملاً للثلاث سواء كان مفرقاً أو مجموعاً بتكراره في مجلس واحد أو مقترناً بالعدد لفظاً إو إشارة.

      5- إذا كان بلفظ من ألفاظ الكناية التي تفيد الشدة أو القوة، كانت: بائن أو خلية أو برية أو بتة أو إلحقي بأهلك إذا نوى بها الطلاق.

      وبهذا لا يكون مناط الرجعية أو البينونة كون اللفظ صريحاً أو كناية، لأن من الصريح ما يكون رجعياً وما يكون بائناً، وكذلك الكناية.

      أحكام الطلاق الرجعي والبائن:

      إذا كان عقد الزواج يترتب عليه جملة من الآثار. منها ملك الزوج الاستمتاع بزوجته، وثبوت التوارث بين الزوجين، وأن الزوج يملك تطليق زوجته ثلاث تطليقات فتبقى الزوجة حلالاً لزوجها مالم يستنفذ الطلقات الثلاث يجوز له أن يعقد عليها بعد طلاقها الأول والثاني.

فما أثر الطلاق في تلك الآثار؟

      لا شك أن تلك الآثار تتأثر بالطلاق غير أن الأثر يختلف باختلاف نوع الطلاق.

      فالطلاق الرجعي لا يوثر في الرابطة الزوجية ما دامت العدة موجودة، فملك الاستمتاع باق للزوج فله معاشرتها معاشرة الأزواج ويكون ذلك رجعة له عند الحنفية، وإذا مات أحدهما ورثه الآخر ولا يحل مؤخر الصداق، لأن الزواج لم ينته بعد، فإذا انتهت العدة انتهى ملك الاستمتاع وحل مؤخر الصداق وانتهى سبب التوارث، لكن حل هذه المرأة باق يجوز لمطلقها أن يعقد عليها في أي وقت ما لم تتزوج غيره. غير أن الرجل يصبح بعدها لا يملك تطليقها إلا مرتين فقط بعد أن كان يملك ثلاثاً، وعلى ذلك لا يكون للطلاق الرجعي أثر إلا نقصان عدد الطلقات التي يملكها الزوج، وتحديد أمد الزوجية بمدة العدة بعد أن كانت دائمة غير محدودة، فإذا ما انتهت العدة بانت منه المرأة وانتهى ملكه ولا يجوز له قربانها إلا بعد عقد جديد، وهذا معنى قول الفقهاء : إن الطلاق الرجعي لا يزيل الملك ولا الحل ما دامت العدة قائمة.

      أما الطلاق البائن بينونة صغرى فيظهر أثره في الأمور الآتية:

      1- أنه يزيل ملك الاستمتاع. فلا يحل له منها شيء إلا إذا أعادها بعقد جديد، ومن هنا لا يزيل حل المرأة حيث لم يوجد سبب يحرمها عليه، فيجوز له العقد عليها في أي وقت في العدة أو بعدها، وهذا معنى قول الفقهاء : إن الطلاق البائن بينونة صغرى يزيل الملك لا الحل.

      2- يحل به مؤخر الصداق المؤجل.

      3- يمنع التوارث إذا مات أحدهما في أثناء العدة لانتهاء سبب الإرث وهو الزوجية إلا إذا كان الطلاق في مرض موت الزوج بقصد الفرار من ميراثها فإنها ترثه إذا مات قبل انقضائها.

      4- ينقص به عدد الطلقات.

      أما البائن بينونة كبرى فإنه يقطع الزوجية ولا يبقى لها أثر بعده إلا العدة وأحكامها، فيحل مؤخر الصداق ويمنع التوارث إلا إذا كان الطلاق بقصد الفرار من الميراث، وتحرم على المطلق تحريماً مؤقتاً فلا يحل له أن يعقد عليها إلا بعد أن تتزوج زوجاً آخر ويدخل بها ثم تنتهي هذه الزوجية بالموت أو الطلاق، وهذا معنى قولهم: إن البائن بينونة كبرى يزيل الأمرين الملك والحل معاً بمجرد وقوعه لكنه زوال مؤقت.

المبحث الثالث

الرجعة:

      تعريف الرجعة: هي استدامة الزوجية القائمة بالقول أو بالفعل أثناء العدة. وإنما كانت الرجعة استدامة للزوجية، لأن الطلاق الرجعي لا يؤثر في عقد الزواج إلا بتحديده بمدة العدة، فإذا راجع الزوج زوجته فقد ألغى عمل الطلاق في هذا التحديد واستدام الزواج بعد أن كان على وشك الانتهاء.

      من له حق الرجعة من الزوجين:

      الرجعة حق أثبته الشارع للزوج وحده في فترة العدة إن شاء استعمله رضيت الزوجة أو لم ترض وإن شاء تركه، لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] بعد أمر النساء بالتربص مدة العدة، فقد جعل أزواج المطلقات أحق برجعتهن في مدة العدة إذا رأوا في الرجعة مصلحة، فإذا لم يجد الزوج فيها مصلحة تركها بلا مراجعة حتى تنتهي عدتها فتبين منه.

      وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر في قصة طلاق ابنه عبد الله لزوجته وهي حائض: "مره فليراجعها"، وإذا ثبت هذا الحق للزوج لا يملك إسقاطه بالقول أو التنازل عنه. كأن يقول بعد طلاقها: أسقطت حقي في الرجعة أو لا رجعة لي عليك، فإن فعل ذلك لا يسقط حقه وله مراجعتها بعد ذلك، لأن الشارع جعل الرجعة حكماً من أحكام الطلاق الرجعي وأثراً من آثاره بترتيبها عليه في قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فلو أسقطه المطلق كان مغيراً لما شرعه الله، ولا يملك أحد ذلك التغيير.

      ما تتحقق به الرجعة:

      تتحقق الرجعة بأحد أمرين، بالقول وما يقوم مقامه من الكتابة أو الإشارة، وبالفعل. أما الرجعة بالقول فتكون بالألفاظ الصريحة، وهي التي لا تحتمل غير الرجعة، نحو راجعت زوجتي أو أمسكتها أو رددتها إلى عصمتي، أو يقول مخاطباً لها راجعتك أو أمسكتك أو رددتك.

      وهذه الألفاظ لا تحتاج إلى النية لصراحتها، وتتحقق الرجعة بهذه الألفاظ باتفاق الفقهاء:

      ذهب الحنفية: إلى أنها تكون بلفظ من ألفاظ الكناية وهي التي تحتمل الرجعة وغيرها. كقوله لها: أنت امرأتي، أو أنت عندي كما كنت إذا نوى بها الرجعة أو دل الحال على إرادتها، لأن اللفظ الأول يحتمل أنها بمنزلة امرأته في الإكرام والمعزة، والثاني يحتمل الرجعة وأنها كما كانت قبل الطلاق في رعايته لها وعنايته بها.

      ويقوم مقام اللفظ في تحقيق الرجعة الكتابة على الصورة التي بيناها في الطلاق وكذلك الإشارة من العاجز عن النطق كالأخرس.

      وأما الرجعة بالفعل فتكون بكل فعل يوجب حرمة المصاهرة من المخالطة الجنسية ومقدماتها من اللمس والتقبيل بشهوة عند الحنفية لأن ذلك يدل على رغبته في بقاء الزوجية.

      وزاد الحنفية الفعل من جانبها، فقالوا: إذا قبلته أو لمسته بشهوة وهو يعلم ولم يمنعها كان ذلك رجعة من غير خلاف بين أئمة المذهب.

      أما إذ فعلت ذلك بدون علمه كأن فعلته وهو نائم أو خلسة فأبو حنيفة يعتبر ذلك رجعة، لأن فعل ذلك يوجب حرمة المصاهرة لا فرق بين الرجل والمرأة فتكون رجعة حيث لا فارق.

شروط صحة الرجعة:

      لا تصح الرجعة إلا إذا توفر فيها الشروط الآتية:

      1- أن تكون بعد طلاق رجعي في أثناء العدة، فإن كان الطلاق بائناً لا تصح، لأن البائن يزيل الملك فتملك نفسها. فلا يملك المطلق إعادتها إلا بعقد رضائي منهما، وإن كان رجعياً وانتهت العدة فلا تصح أيضاً لأن العدة إذا انتهت زالت رجعية الطلاق وأصبح بائناً فيقفل باب الرجعة.

      2- أن تكون الرجعة منجزة غير معلقة ولا مضافة إلى زمن مستقبل لأنها استدمة النكاح فتكون شبيهة به، وكما لا يصح التعليق والإضافة في إنشائه لا يصح في استدامته، فلو قال لها: إن لم أتزوج في هذا الشهر فقد راجعتك، أو إن حضر أبوك فقد راجعتك لا تصح الرجعة، وكذلك لو قال لها: راجعتك في أول الشهر القادم.

      3- يشترط الحنفية في الرجعة بالقول أن يكون المراجع أهلا لمباشرة عقد الزواج، فلا تصح من المجنون أو النائم أو المغمى عليه، وكذا السكران على التفضيل السابق عندهم، وتصح مع الإكراه أو الهزل، أما الرجعة بالفعل فلا يشترط فيها ذلك، فلو طلقها ثم جن أو أصابه عته أو سكر ثم فعل بها فعلا يوجب حرمة المصاهرة كان ذلك رجعة.

      ولا يشترط في صحة الرجعة الإشهاد عليها عند جمهور الفقهاء منهم الحنفية، فتصح وإن لم يشهد عليها أحداً، لكنه يستحب الإشهاد لئلا تكون عرضة للإنكار من جانب الزوجة بعد انقضاء عدتها ولا يستطيع إثباتها، ودفعاً للتهمة عنه فيما إذا علم الناس بطلاقها ثم راجعها بدون إشهاد فإنه يكون عرضة للاتهام بأنه يعاشرها بغير زواج.

      كما لا يشترط إعلام الزوجة بها وإن كان يندب إعلامها حتى لا تقع في محظور بأن تتزوج غيره بعد انتهاء عدتها أو يقع بينهما النزاع فيها بعدها.

المبحث الرابع

زواج التحليل:

      قدمنا أن الطلاق البائن بينونة كبرى تحرم به المرأة على مطلقها تحريماً مؤقتاً حتى تتزوج زوجاً آخر ويدخل بها دخولاً حقيقياً لأن القرآن جعل زواجها بغيره غاية التحريم {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} وجاءت السنة وبينت المراد من النكاح، وهو أنه ليس مجرد العقد، بل العقد الذي يتبعه دخول حقيقي فيما رواه البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كنت عند رفاعة القرظي فأبت طلاقي فتزوجت بعده بعبد الرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب، فتبسم رسول الله وقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك"، ولأن ربط حلها بزواجها غيره قصد به الزجر عن الطلاق والتأني فيه، ولا يتحقق الزجر بمجرد العقد لأن النفس تقبله ولا تأنف منه، فكان لابد من الدخول الحقيقي.

      وإذا كان الشارع شرط في الحل النكاح فلا يكون إلا النكاح الصحيح، فإذا كان العقد فاسداً لا تحل به ولو كان بعده دخول، وكذلك إذا كان صحيحاً ولم يكن معه دخول حتى ولو كان معه خلوة صحيحة.

      والأصل في الزواج الصحيح أن يكون قائماً على الرغبة من الجانبين للعيش الدائم وتكوين الأسرة فلو قيد بوقت معين كان فاسداً.

      ولكن الناس فهموا هذا الأمر على غير حقيقته. فظنوا أن زواج الزوج الثاني ليس مقصوداً لذاته، وإنما قصد به تحليل المرأة لزوجها الأول فكان ما يحدث كثيراً أن يقع هذا الزواج بقصد التحليل إما بمجرد النية والقصد عند العقد من غير أن يصدر منهما كلام يدل على ذلك القصد، وإما مع اشتراط أثناء العقد أو قبله. كأن يقول لها: تزوجتك على أن أحلك لمطلقك مما جعل الفقهاء يبحثون في هذا العقد من جهة صحته وأنه يحقق التحليل أو لا، وإليك إجمال آراء الفقهاء فيه:

      ذهب المالكية والحنابلة إلى أن زواج التحليل فاسد لا فرق بين ما اشترط فيه التحليل في العقد أو قبله أو بعده وبين ما نوى فيه فقط بدون اشتراط، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: "هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له"، فهذا يدل على أن عقد التحليل غير صحيح على أي وجه وقع لعدم التفصيل.

      وهذا ما فهمه أصحاب رسول الله. فقد روى عن عمر أنه كان يقول: "لا أوتي بمحلل ولا بمحللة إلا رجمتهما بالحجارة" والرجم بالحجارة لا يكون إلا على الزنا.

      وروى نافع عن ابن عمر أن رجلاً قال له: امرأة تزوجتها أحلها لزوجها لم يأمرني ولم تعلم قال: إلا نكاح رغبة إن أعجبتك أمسكتها وإن كرهتها فارقتها كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

      ولأن زواج التحليل زواج مؤقت، وهو غير صحيح لأنه لا يحقق الأغراض التي من أجلها شرع الزواج.

      وذهب الحنفية والشافعية إلى تفصيل في المسألة بين ما إذا كان التحليل مجرد نية لم يوجد ما يدل عليها أثناء العقد وبين ما إذا كان مشروطاً فيه.

      فإن كان منوياً فقط صح العقد وأفاد الحل إذا تم على الوجه المرسوم شرعاً لعدم وجود ما يؤثر في العقد بالفساد.

      أما إذا شرط فيه فذهب الشافعية إلى فساد العقد لوجود الشرط الفاسد الذي يقتضي فساد العقد.

      وذهب أبو حنيفة إلى أن هذا الزواج صحيح، لأن هذا شرط فاسد، والزواج لا يفسد بالشروط الفاسدة، فيلغو الشرط وحده ويبقى العقد صحيحاً، ولكنه يكون مكروهاً لحديث "لعن الله المحلل والمحلل له".

      وإذا كان العقد صحيحاً فللزوج الثاني البقاء مع زوجته لا يستطيع أحد جبره على مفارقتها، فإذا فارقها باختياره أو مات عنها وانتهت عدتها حلت للأول بهذا الزواج.

المبحث الخامس

طلاق المريض مرض الموت:

      الطلاق حق للزوج يوقعه في أي وقت إذا وجد ما يقتضيه صحيحاً كان أو مريضاً ما دامت أهليته للتصرف موجودة، فإنه لا حجر عليه في ذلك.

      فإن طلقها طلاقاً رجعياً ومات وهي في العدة ورثته بلا خلاف لقيام الزوجية حكماً وهي سبب للإرث يستوي في ذلك الطلاق في الصحة أو المرض.

      وإذا طلقها طلاقاً بائناً بينونة صغرى أو كبرى انقطعت الزوجية فلا ميراث لها مات في العدة أو بعدها إذا كان الطلاق في حالة الصحة أو المرض العادي الذي لا يسلم إلى الموت.

      أما إذا كان الطلاق في مرض الموت فأكثر الفقهاء على أنها ترثه لأنه يعتبر فاراً من ميراثها في هذه الحالة فيعامل بنقيض مقصوده، وليس في ذلك كتاب ولا سنة، وإنما كان من مواضع اجتهادات