تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 267 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 267

267 : تفسير الصفحة رقم 267 من القرآن الكريم

** وَقُلْ إِنّيَ أَنَا النّذِيرُ الْمُبِينُ * كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَرَبّكَ لَنَسْأَلَنّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
يأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس: {إني أنا النذير المبين} البين النذارة, نذير للناس من عذاب أليم أن يحل بهم على تكذيبه كما حل بمن تقدمهم من الأمم المكذبة لرسلها, وما أنزل الله عليهم من العذاب والانتقام. وقوله: {المقتسمين} أي المتحالفين, أي تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم, كقوله تعالى إخباراً عن قوم صالح إنهم {قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله} الاَية, أي نقتلهم ليلاً, قال مجاهد: تقاسموا وتحالفوا {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} {أولم تكونوا أقسمتم من قبل} الاَية {أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة} فكأنهم كانوا لا يكذبون بشيء من الدنيا إلا أقسموا عليه فسموا مقتسمين, قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: المقتسمون أصحاب صالح الذين تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله. وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني, وإني أنا النذير العريان فالنجاء النجاء, فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا, وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم, فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم, فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق.
وقوله: {الذين جعلوا القرآن عضين} أي جزءوا كتبهم المنزلة عليهم فآمنوا ببعض وكفروا ببعض. قال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا هشيم, أنبأنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {جعلوا القرآن عضين} قال: هم أهل الكتاب جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأعمش عن أبي ظبيان, عن ابن عباس {جعلوا القرآن عضين} قال: هم أهل الكتاب جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأعمش عن أبي ظبيان, عن ابن عباس قال: {جعلوا القرآن عضين} قال هم أهل الكتاب جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه, حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال {كما أنزلنا على المقتسمين} قال: آمنوا ببعض وكفروا ببعض اليهود والنصارى. قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد والحسن والضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير وغيرهم نحو ذلك, وقال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس {جعلوا القرآن عضين} قال: السحر, وقال عكرمة: العضه السحر بلسان قريش تقول للساحرة إنها العاضهة, وقال مجاهد: عضوه أعضاء, قالوا سحر, وقالوا كهانة, وقالوا أساطير الأولين, وقال عطاء: قال بعضهم ساحر, وقالوا مجنون, وقال كاهن, فذلك العضين, وكذا روي عن الضحاك وغيره.
وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش, وكان ذا شرف فيهم, وقد حضر الموسم فقال لهم: يا معشر قريش, إنه قد حضر هذا الموسم, وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا, فأجمعوا فيه رأياً واحداً, ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً, ويرد قولكم بعضه بعضاً, فقالوا: وأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول به, قال: بل أنتم قولوا لأسمع, قالوا: نقول كاهن, قال: ما هو بكاهن, قالوا: فنقول مجنون, قال: ما هو بمجنون, قالوا: فنقول شاعر, قال: ما هو بشاعر, قالوا: فنقول ساحر, قال: ما هو بساحر, قالوا: فماذا نقول ؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة, فما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل, وإن أقرب القول أن تقولوا هو ساحر, فتفرقوا عنه بذلك, وأنزل الله فيهم {الذين جعلوا القرآن عضين} أصنافاً {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} أولئك النفر الذين قالوا لرسول لله.
وقال عطية العوفي عن ابن عمر في قوله: {لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} قال: عن لا إله إلا الله. وقال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري عن ليث هو ابن أبي سليم عن مجاهد في قوله تعالى: {لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} قال: عن لا إله إلا الله, وقد روى الترمذي وأبو يعلى الموصلي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث شريك القاضي, عن ليث بن أبي سليم عن بشير بن نهيك, عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم {فوربك لنسألنهم أجمعين} قال: عن لا إله إلا الله, ورواه ابن إدريس عن ليث عن بشير عن أنس موقوفاً, وقال ابن جرير: حدثنا أحمد, حدثنا أبو أحمد, حدثنا شريك عن هلال عن عبد الله بن عكيم, قال: ورواه الترمذي وغيره من حديث أنس مرفوعاً, وقال عبد الله هو ابن مسعود: والذي لا إله غيره ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر, فيقول: ابن آدم ماذا غرك مني بي ؟ ابن آدم ماذا عملت فيما علمت ؟ ابن آدم ماذا أجبت المرسلين ؟
وقال أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية في قوله: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} قال: يسأل العباد كلهم عن خلتين يوم القيامة: عما كانوا يعبدون, وماذا أجابوا المرسلين, وقال ابن عيينة عن عملك وعن مالك. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن أبي الحواري, حدثنا يونس الحذاء عن أبي حمزة الشيباني عن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ إن المرء يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه حتى كحل عينيه, وعن فتات الطينة بأصبعه, فلا ألفينك يوم القيامة واحد غيرك أسعد بما آتاك الله منك» وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} ثم قال: {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} قال: لا يسألهم هل عملتم كذا ؟ لأنه أعلم بذلك منهم, ولكن يقول: لم عملتم كذا وكذا ؟.

** فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ السّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبّكَ حَتّىَ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بإبلاغ ما بعثه به وبإنفاذه والصدع به, وهو مواجهة المشركين به, كما قال ابن عباس في قوله: {فاصدع بما تؤمر} أي أمضه, وفي رواية {افعل ما تؤمر} وقال مجاهد: هو الجهر بالقرآن في الصلاة. وقال أبو عبيدة عن عبد الله بن مسعود: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزلت {فاصدع بما تؤمر}, فخرج هو وأصحابه. وقوله: {وأعرض عن المشركين * إنا كفيناك المستهزئين} أي بلغ ما أنزل إليك من ربك, ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله {ودّوا لو تدهن فيدهنون} ولا تخفهم فإن لله كافيك إياهم وحافظك منهم, كقوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس}.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يحيى بن محمد بن السكن, حدثناإسحاق بن إدريس, حدثنا عون بن كهمس عن يزيد بن درهم, عن أنس قال: سمعت أنساً يقول في هذه الاَية, {إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر} قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم فغمزه بعضهم فجاء جبريل, أحسبه قال: فغمزهم, فوقع في أجسادهم كهيئة الطعنة فماتوا. قال محمد بن إسحاق: كان عظماء المستهزئين كما حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير خمسة نفر, وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم من بني أسد بن عبد العزى بن قصي الأسود بن المطلب أبي زمعة , كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه, فقال: «اللهم أعم بصره, وأثكله ولده» ومن بني زهرة الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة, ومن بني مخزوم الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم, ومن بني سهم ابن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سعد, ومن خزاعة الحارث بن الطلاطلة بن عمرو بن الحارث بن عبد بن ـ عمرو بن ملكان ـ. فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء أنزل الله تعالى: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين * إنا كفيناك المستهزئين إلى قوله فسوف يعلمون}.
وقال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير أو غيره من العلماء,أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت , فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه, فمر به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه, فاستسقى بطنه, ومر به الوليد بن المغيرة, فأشار إلى أثر جرحٍ بأسفل كعب رجله, وكان أصابه قبل ذلك بسنتين, وهو يجز إزاره, وذلك أنه مر برجل من خزاعة يريش نبلاً له, فتعلق سهم من نبله بإزاره فخدش رجله ذلك الخدش, وليس بشيء, فانتفض به فقتله, ومر به العاص بن وائل, فأشار إلى أخمص قدمه فخرج على حمار له يريد الطائف, فربض على شبرقة فدخلت في أخمص قدمه فقتلته, ومر به الحارث بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فامتخط قيحاً فقتله.
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن رجل, عن ابن عباس قال: كان رأسهم الوليد بن المغيرة وهو الذي جمعهم, وهكذاروي عن سعيد بن جبير وعكرمة نحو سياق محمد بن إسحاق به, عن يزيد عن عروة بطوله, إلا أن سعيداً يقول: الحارث بن غيطلة, وعكرمة يقول الحارث بن قيس. قال الزهري: وصدقا هو الحارث بن قيس, وأمه غيطلة, وكذا روي عن مجاهد ومقسم وقتادة وغير واحد أنهم كانوا خمسة. وقال الشعبي: كانوا سبعة, والمشهور الأول: وقوله: {الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوف يعلمون} تهديد شديد ووعيد أكيد لمن جعل مع لله معبوداً آخر.
وقوله: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين} أي وإنا لنعلم يا محمد أنك يحصل لك من أذاهم لك ضيق صدر وانقباض فلا يهيدنك ذلك ولا يثنينك عن إبلاغك رسالة الله, وتوكل عليه فإنه كافيك وناصرك عليهم, فاشتغل بذكر الله وتحميده وتسبيحه وعبادته التي هي الصلاة, ولهذا قال: {فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين}. كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن كثير بن مرة عن نعيم بن همّار أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى يا ابن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره» ورواه أبو داود والنسائي من حديث مكحول عن كثير بن مرة بنحوه, ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى.
وقوله: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} قال البخاري: قال سالم: الموت, وسالم هذا هو سالم بن عبد الله بن عمر, كما قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان, حدثني طارق بن عبد الرحمن عن سالم بن عبد الله {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} قال: الموت, وهكذا قال مجاهد والحسن وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيره, والدليل على ذلك قوله تعالى إخباراً عن أهل النار أنهم قالوا {لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين} وفي الصحيح من حديث الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت, عن أم العلاء امرأة من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على عثمان بن مظعون وقد مات, قالت أم العلاء: رحمة الله عليك أبا السائب, فشهادتي عليك لقد أكرمك الله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك أن الله أكرمه ؟» فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله, فمن ؟ فقال: «أما هو فقد جاءه اليقين, وإني لأرجو له الخير» ويستدل بهذه الاَية الكريمة وهي قوله: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتاً, فيصلي بحسب حاله.
كما ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صل قائماً, فإن لم تستطع فقاعداً, فإن لم تستطع فعلى جنب» ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة, فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم, وهذا كفر وضلال وجهل, فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته, وما يستحق من التعظيم, وكانوا مع هذا أعبد وأكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة, وإنما المراد باليقين ههنا الموت, كما قدمناه, ولله الحمد والمنة, والحمد لله على الهداية وعليه الاستعانة والتوكل, وهو المسؤول أن يتوفانا على أكمل الأحوال وأحسنها, فإنه جواد كريم.
آخر تفسير سورة الحجر, والحمد لله رب العالمين.

سورة النحل
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
** أَتَىَ أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ
يخبر تعالى عن اقتراب الساعة ودنوها معبراً بصيغة الماضي الدال على التحقيق والوقوع لا محالة, كقوله: {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون}, وقال: {اقتربت الساعة وانشق القمر}. وقوله: {فلا تستعجلوه} أي قرب ما تباعد فلا تستعجلوه, يحتمل أن يعود الضمير على الله, ويحتمل أن يعود على العذاب, وكلاهما متلازم, كما قال تعالى: {ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون * يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} وقد ذهب الضحاك في تفسير هذه الاَية إلى قول عجيب, فقال في قوله: {أتى أمر الله} أي فرائضه وحدوده, وقد رده ابن جرير فقال: لا نعلم أحداً استعجل بالفرائض وبالشرائع قبل وجودها بخلاف العذاب, فإنهم استعجلوه قبل كونه استبعاداً وتكذيباً, قلت: كما قال تعالى: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها, والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق, ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد}.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن يحيى بن آدم, عن أبي بكر بن عياش, عن محمد بن عبد الله مولى المغيرة بن شعبة, عن كعب بن علقمة, عن عبد الرحمن بن حجيرة, عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تطلع عليكم عند الساعة سحابة سوداء من المغرب مثل الترس, فما تزال ترتفع في السماء ثم ينادي مناد فيها: يا أيهاالناس, فيقبل الناس بعضهم على بعض: هل سمعتم, فمنهم من يقول: نعم, ومنهم من يشك, ثم ينادي الثانية: يا أيها الناس, فيقول الناس بعضهم لبعض: هل سمعتم, فيقولون: نعم, ثم ينادي الثالثة: يا أيها الناس أتى أمر الله فلا تستعجلوه» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فو الذي نفسي بيده, إن الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه أبداً, وإن الرجل ليمدن حوضه فما يسقي فيه شيئاً ابداً, وإن الرجل ليحلب ناقته فما يشربه أبداً ـ قال ـ ويشتغل الناس» ثم إنه تعالى نزه نفسه عن شركهم به غيره وعبادتهم معه ما سواه من الأوثان والأنداد, تعالى وتقدس علواً كبيراً, وهؤلاء هم المكذبون بالساعة فقال: {سبحانه وتعالى عما يشركون}.

** يُنَزّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوَاْ أَنّهُ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ أَنَاْ فَاتّقُونِ
يقول تعالى: {ينزل الملائكة بالروح} أي الوحي, كقوله: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان, ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادن} وقوله: {على من يشاء من عباده} وهم الأنبياء, كما قال تعالى: { الله أعلم حيث يجعل رسالته}, وقال: { الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس} وقال: {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق * يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم, لله الواحد القهار}. وقوله: {أن أنذرو} أي لينذروا {أنه لا إله إلا أنا فاتقون}أي فاتقوا عقوبتي لمن خالف أمري وعبد غيري.

** خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقّ تَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌ
يخبر تعالى عن خلقه العالم العلوي وهو السموات, والعالم السفلي وهو الأرض بما حوت, وأن ذلك مخلوق بالحق لا للعبث بل { ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى} ثم نزه نفسه عن شرك من عبد معه غيره, وهو المستقل بالخلق وحده لا شريك له, فلهذا يستحق أن يعبد وحده لا شريك له, ثم نبه على خلق جنس الإنسان من نطفة أي مهينة ضعيفة, فلما استقل ودرج إذا هو يخاصم ربه تعالى ويكذبه ويحارب رسله, وهو إنما خلق ليكون عبداً لا ضداً, كقوله تعالى: {وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديراً * ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهير}. وقوله: {أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين * وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم} وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن بسر بن جحاش قال: بصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفه, ثم قال: «يقول الله تعالى: ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك فعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت الحلقوم قلت أتصدق, وأنى أوان الصدقة».

** وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىَ بَلَدٍ لّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاّ بِشِقّ الأنفُسِ إِنّ رَبّكُمْ لَرَؤُوفٌ رّحِيمٌ
يمتنّ تعالى على عباده بما خلق لهم من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم, كما فصلها في سورة الأنعام إلى ثمانية أزواج, وبما جعل لهم فيها من المصالح والمنافع من أصوافها وأوبارهاوأشعارها يلبسون ويفترشون, ومن ألبانها يشربون ويأكلون من أولادها, وما لهم فيها من الجمال وهو الزينة, ولهذا قال: {ولكم فيها جمال حين تريحون} وهو وقت رجوعها عشياً من المرعى فإنها تكون أمده خواصر وأعظمه ضروعاً وأعلاه أسنمة {وحين تسرحون} أي غدوة حين تبعثونها إلى المرعى {وتحمل أثقالكم} وهي الأحمال الثقيلة التي تعجزون عن نقلها وحملها {إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس} وذلك في الحج والعمرة والغزو والتجارة وما جرى مجرى ذلك, تستعملونها في أنواع الاستعمال من ركوب وتحميل, كقوله: {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون}, وقال تعالى: {الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون * ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون * ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون}, ولهذا قال ههنا بعد تعداد هذه النعم {إن ربكم لرءوف رحيم} أي ربكم الذي قيض لكم هذه الأنعام وسخرها لكم, كقوله: {أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون * وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ؟}, وقال: {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون * لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون} قال ابن عباس: {لكم فيها دفء} أي ثياب, {ومنافع} ما تنتفعون به من الأطعمة والأشربة. وقال عبد الرزاق: أخبرنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة, عن ابن عباس: دفء ومنافع نسل كل دابة. وقال مجاهد: لكم فيها دفء أي لباس ينسج, ومنافع مركب ولحم ولبن. وقال قتادة: دفء ومنافع, يقول: لكم فيها لباس ومنفعة وبلغة, وكذا قال غير واحد من المفسرين بألفاظ متقاربة.