تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 532 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 532


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ * وَٱلاٌّرْضَ وَضَعَهَا لِلاٌّنَامِ * فِيهَا فَـٰكِهَةٌ وَٱلنَّخْلُ ذَاتُ ٱلاٌّكْمَامِ * وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ * فَبِأَىِّ ءَالاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ مِن صَلْصَـٰلٍ كَٱلْفَخَّارِ * وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ * فَبِأَىِّ ءَالاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَىِّ ءَالاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ * فَبِأَىِّ ءَالاۤءِ رَبِّكُمَا تِكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ * فَبِأَىِّ ءَالاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِى ٱلْبَحْرِ كَٱلاٌّعْلَـٰمِ * فَبِأَىِّ ءَالاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلْـٰلِ وَٱلإِكْرَامِ * فَبِأَىِّ ءَالاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَسْأَلُهُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ * فَبِأَىِّ ءَالاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلثَّقَلاَنِ * فَبِأَىِّ ءَالاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَـٰرِ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ فَٱنفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَـٰنٍ * فَبِأَىِّ ءَالاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَىِّ ءَالاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَٱلدِّهَانِ * فَبِأَىِّ ءَالاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْألُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ * فَبِأَىِّ ءَالاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَـٰهُمْ فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِى وَٱلاٌّقْدَامِ * فَبِأَىِّ ءَالاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}
قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}، وذكرنا بعضه في سورة شورى. قوله تعالى: {وَٱلاٌّرْضَ وَضَعَهَا لِلاٌّنَامِ فِيهَا فَـٰكِهَةٌ وَٱلنَّخْلُ ذَاتُ ٱلاٌّكْمَامِ وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية أنه وضع الأرض للأنام وهو الخلق، لأن وضع الأرض لهم على هذا الشكل العظيم، القابل لجميع أنواع الانتفاع من إجراء الأنهار وحفر الآبار وزرع الحبوب والثمار، ودفن الأموات وغير ذلك من أنواع المنافع. من أعظم الآيات وأكبر الآلاء التي هي النعم، ولذا قال تعالى بعده: {فَبِأَىِّ ءَالاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من امتنانه جل وعلا على خلقه بوضع الأرض لهم بما فيها من المنافع، وجعلها آية لهم، دالة على كمال قدرة ربهم واستحقاقه للعبادة وحده، جاء موضحاً في آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى: {وَهُوَ ٱلَّذِى مَدَّ ٱلاٌّرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَـٰراً وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ
وقوله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلاٌّرْضَ ذَلُولاً فَٱمْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ}.
وقوله تعالى {وَٱلاٌّرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـٰهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَـٰهَاوَٱلْجِبَالَ أَرْسَـٰهَا مَتَـٰعاً لَّكُمْ وَلاًّنْعَـٰمِكُمْ} وقوله تعالى {وَٱلاٌّرْضَ فَرَشْنَـٰهَا فَنِعْمَ ٱلْمَـٰهِدُونَ} وقوله تعالى {ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلاٌّرْضَ فِرَاش}.
وقوله تعالى {وَٱلاٌّرْضَ مَدَدْنَـٰهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَٰسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً مُّبَـٰرَك}.
وقوله تعالى {هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلاٌّرْضِ جَمِيعا} والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فِيهَا فَـٰكِهَةٌ} أي فواكه كثيرة، وقد قدمنا أن هذا أسلوب عربي معروف، وأوضحنا ذلك بالآيات وكلام العرب.
وقوله: {وَٱلنَّخْلُ ذَاتُ ٱلاٌّكْمَامِ} ذات أي صاحبة، والأكمام جمع كم بكسر الكاف، وهو ما يظهر من النخلة في ابتداء إثمارها، شبه اللسان ثم ينفخ عن النور، وقيل: هو ليفها، واختار ابن جرير شموله للأمرين.
وقوله: {وَٱلْحَبُّ} كالقمح ونحوه.
وقوله: {ذُو ٱلْعَصْفِ}، قال أكثر العلماء: العصف ورق الزرع، ومنه قوله تعالى {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} وقيل العصف: التبن.
وقوله: {وَٱلرَّيْحَانُ}: اختلف العلماء في معناه، فقال بعض أهل العلم: هو كل ما طاب ريحه من النبت وصار يشم للتمتع بريحه. وقال بعض العلماء الريحان: الرزق، ومنه قول النجم بن تولب العكلي:
فروح الإله وريحانه ورحمته وسماء درر
غمام ينزل رزق العباد فأحيا البلاد وطاب الشجر

ويتعين كون الريحان بمعنى الرزق على قراءة حمزة والكسائي، وأما على قراءة غيرهما فهو محتمل للأمرين المذكورين.
وإيضاح ذلك أن هذه الآية قرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم: {وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ} بضم الباء والذال والنون من الكلمات الثلاث، وهو عطف على فاكهة أي فيها فاكهة، وفيها الحب إلخ، وقرأه ابن عامر:
{وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ}، بفتح الباء والذال والنون من الكلمات الثلاث، وفي رسم المصحف الشامي ذا العصف بألف بعد الذال، مكان الواو، والمعنى على قراءته: وخلق الحب ذا العصف والريحان، وعلى هاتين القراءتين، فالريحان محتمل لكلا المعنيين المذكورين.
وقراءة حمزة والكسائي بضم الباء في الحب وضم الذال في ذو العصف وكسر نون الريحان عطفاً على العصف، وعلى هذا فالريحان لا يحتمل المشموم لأن الحب الذي هو القمح ونحوه صاحب عصف وهو الورق أو التبن وليس صاحب مشموم طيب ريح.
فيتعين على هذه القراءة أن المراد بالعصف ما تأكله الأنعام من ورق وتبن، والمراد بالريحان ما يأكله الناس من نفس الحب، فالآية على هذا المعنى كقوله {مَتَـٰعاً لَّكُمْ وَلاًّنْعَـٰمِكُمْ} وقوله تعالى {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَـٰمُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ}.
وقوله تعالى {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَـٰتٍ شَتَّىٰكُلُواْ وَٱرْعَوْا أَنْعَـٰمَكُمْ} وقوله تعالى {لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ}.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {فِيهَا فَـٰكِهَةٌ} ما ذكره تعالى فيه من الامتنان بالفاكهة التي هي أنواع، جاء موضحاً في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى في سورة الفلاح {لَّكُمْ فِيهَا فَوَٰكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} وقوله تعالى: {وَفَـٰكِهَةً وَأَبّا} إلى غير ذلك من الآيات.
وما ذكره هنا من الامتنان بالحب جاء موضحاً في آيات أخر، كقوله تعالى: {فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّـٰتٍ وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ}، وقوله تعالى {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَب} وقوله تعالى: {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ}، وقوله تعالى {نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِب}. وقوله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلْحَبِّ وَٱلنَّوَىٰ} إلى غير ذلك من الآيات.
وما ذكره تعالى هنا من الامتنان بالنحل، جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَٱلنَّخْلَ بَـٰسِقَـٰتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ}، وقوله تعالى {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّـٰتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَـٰبٍ}، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وما ذكره هنا من الامتنان بالريحان، على أنه الرزق كما في قراءة حمزة والكسائي، جاء موضحاً في آيات كثيرة أيضاً كقوله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِى يُرِيكُمْ ءَايَـٰتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ رِزْق} وقوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلاٌّرْضِ}، وقوله تعالى: {أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ}. وقوله تعالى: {وَصَوَّرَكُـمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُـمْ وَرَزَقَكُـمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَـٰتِ}، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
مسألة
أخذ بعض علماء الأصول من هذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات كقوله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلاٌّرْضِ جَمِيع} أن الأصل فيما على الأرض الإباحة، حتى يرد دليل خاص بالمنع، لأن الله امتن على الأنام بأنه وضع لهم الأرض، وجعل لهم فيها أرزاقهم من القوت والتفكه في آية الرحمن هذه، وامتن عليهم بأنه خلق لهم ما في الأرض جميعاً في قوله {هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلاٌّرْضِ جَمِيع}.
ومعلوم أنه جل وعلا لا يمتن بحرام إذ لا منة في شيء محرم، واستدلوا لذلك أيضاً بحصر المحرمات في أشياء معينة في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى {قُل لاَ أَجِدُ فِى مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ}، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}. وقوله تعالى {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}.
وفي هذه المسألة قولان آخران.
أحدهما: أن الأصل فيما على الأرض التحريم حتى يدل دليل على الإباحة، واحتجوا لهذا بأن جميع الأشياء مملوكة لله جل وعلا، والأصل في ملك الغير منع التصرف فيه إلا بإذنه، وفي هذا مناقشات معروفة في الأصول، ليس هذا محل بسطها.
القول الثاني: هو الوقف وعدم الحكم فيها بمنع ولا إباحة حتى يقوم الدليل، فتحصل أن في المسألة ثلاثة مذاهب: المنع، والإباحة، والوقف.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي صوابه في هذه المسألة هو التفصيل، لأن الأعيان التي خلقها الله في الأرض للناس بها ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون فيها نفع لا يشوبه ضرر كأنواع الفواكه وغيرها.
الثانية: أن يكون فيها ضرر لا يشوبه نفع كأكل الأعشاب السامة القاتلة.
الثالثة: أن يكون فيها نفع من جهة وضرر من جهة أخرى، فإن كان فيها نفع لا يشوبه ضرر، فالتحقيق حملها على الإباحة حتى يقوم دليل على خلاف ذلك لعموم قوله: {هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلاٌّرْضِ جَمِيع}. وقوله {وَٱلاٌّرْضَ وَضَعَهَا لِلاٌّنَامِ}.
وإن كان فيها ضرر لا يشوبه نفع فهي على التحريم لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار».
وإن كان فيها نفع من جهة وضرر من جهة أخرى فلها ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون النفع أرجح من الضرر.
والثانية: عكس هذا.
والثالثة: أن يتساوى الأمران.
فإن كان الضرر أرجح من النفع أو مساوياً له فالمنع لحديث «لا ضرر ولا ضرار» ولأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وإن كان النفع أرجح، فالأظهر الجواز، لأن المقرر في الأصول أن المصلحة الراجحة تقدم على المفسدة المرجوحة، كما أشار له في مراقي السعود بقوله: * وألغ إن يك الفساد أبعدا * أو رجح الإصلاح كالأسارا تفدى بما ينفع للنصارا
وانظر تدلي دولي العنب في كل مشرق وكل مغرب

ومراده: تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة، أو البعيدة ممثلاً له بمثالين:
الأول منهما: أن تخليص أسارى المسلمين من أيدي العدو بالفداء مصلحة راجحة قدمت على المفسدة المرجوحة، التي هي انتفاع العدو بالمال المدفوع لهم فداء للأسارى.
الثاني: أن انتفاع الناس بالعنب والزبيب، مصلحة راجحة على مفسدة عصر الخمر من العنب، فلم يقل أحد بإزالة العنب من الدنيا لدفع ضرر عصر الخمر منه، لأن الانتفاع بالعنب والزبيب مصلحة راجحة على تلك المفسدة، وهذا التفصيل الذي اخترنا، قد أشار له صاحب مراقي السعود بقوله: والحكم ما به يجيء الشرع وأصل كل ما يضر المنع

تنبيه
اعلم أن علماء الأصول يقولون: إن الإنسان لا يحرم عليه فعل شيء إلا بدليل من الشرع، ويقولون إن الدليل على ذلك عقلي، وهو البراءة الأصلية المعروفة بالإباحة العقلية، وهي استصحاب العدم الأصلي حتى يرد دليل ناقل عنه.
ونحن نقول: إنه قد دلت آيات من كتاب الله على أن استصحاب العدم الأصلي قبل ورود الدليل الناقل عنه حجة في الإباحة، ومن ذلك أن الله لما أنزل تشديده في تحريم الربا في قوله تعالى {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ ٱللَّهِ}، وكانت وقت نزولها عندهم أموال مكتسبة من الربا، اكتسبوها قبل نزول التحريم، بين الله تعالى لهم أن ما فعلوه من الربا، على البراءة الأصلية قبل نزول التحريم لا حرج عليهم فيه، إذ لا تحريم إلا ببيان، وذلك في قوله تعالى: {فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ} وقوله: ما سلف أي ما مضى قبل نزول التحريم، ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} وقوله تعالى {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ ٱلاٍّخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} والأظهر أن الاستثناء فيهما في قوله: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ}. منقطع أي لكن ما سلف من ذلك قبل نزول التحريم، فهو عفو، لأنه على البراءة الأصلية.
ومن أصرح الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى {وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما استغفر لعمه أبي طالب بعد موته على الشرك، واستغفر المسلمون لموتاهم المشركين عاتبهم الله في قوله {مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوۤاْ أُوْلِى قُرْبَىٰ}. ندموا على الاستغفار لهم، فبين الله لهم أن استغفارهم لهم لا مؤاخذة به، لأنه وقع قبل بيان منعه، وهذا صريح فيما ذكرنا.
وقد قدمنا أن الأخذ بالبراءة الأصلية يعذر به في الأصول أيضاً في الكلام على قوله تعالى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُول} وبينا هناك كلام أهل العلم في ذلك، وأوضحنا ما جاء في ذلك من الآيات القرآنية. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ مِن صَلْصَـٰلٍ كَٱلْفَخَّارِوَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ}. الصلصال: الطين اليابس الذي تسمع له صلصلة، أي صوت إذا قرع بشيء، وقيل الصلصال المنتن، والفخار الطين المطبوخ، وهذه الآية بين الله فيها طوراً من أطوار التراب الذي خلق منه آدم، فبين في آيات أنه خلقه من تراب كقوله تعالى {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} وقوله تعالى {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ مِّن تُرَابٍ} وقوله تعالى {وَمِنْ ءَايَـٰتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} وقوله تعالى {هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} وقوله تعالى {مِنْهَا خَلَقْنَـٰكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ}.
وقد بينا في قوله تعالى {فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ مِّن تُرَابٍ} وقوله {مِنْهَا خَلَقْنَـٰكُمْ} أن المراد بخلقهم منها هو خلق أبيهم آدم منها، لأنه أصلهم وهم فروعه، ثم إن الله تعالى عجن هذا التراب بالماء فصار طيناً، ولذا قال {أَءَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينً} وقال {وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ مِن سُلَـٰلَةٍ مِّن طِينٍ} وقال تعالى {وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَـٰنِ مِن طِينٍ}. وقال {أَم مَّنْ خَلَقْنَآ إِنَّا خَلَقْنَـٰهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} وقال تعالى: {إِنِّى خَـٰلِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ} ثم خمر هذا الطين فصار حماً مسنوناً، أي طيناً أسود متغير الريح، كما قال تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ مِن صَلْصَـٰلٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ}.
قال تعالى {إِنِّى خَـٰلِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَـٰلٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} وقال عن إبليس {قَالَ لَمْ أَكُن لاًّسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَـٰلٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} والمسنون قيل المتغير وقيل المصور وقيل الأملس، ثم يبس هذا الطين فصار صلصالاً. كما قال هنا: {خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ مِن صَلْصَـٰلٍ كَٱلْفَخَّارِ} وقال {ٱلْجَآنَّ} أي وخلق الجان وهو أبو الجن، وقيل هو إبليس. وقيل: هو الواحد من الجن.
وعليه فالألف واللام للجنس، والمارج: اللهب الذي لا دخان فيه، وقوله {مِّن نَّارٍ} بيان لمارج. أي من لهب صاف كائن من النار.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أنه تعالى خلق الجان من النار، جاء موضحاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى في الحجر {وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ مِن صَلْصَـٰلٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَـٰهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ} وقوله تعالى {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}.
وقد أوضحنا الكلام على هذا في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى {إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ}. قوله تعالى: {رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ}. قد أوضحنا الكلام عليه في أول الصافات في الكلام على قوله تعالى {رَّبُّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ ٱلْمَشَـٰرِقِ}. قوله تعالى: {مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى {وَهُوَ ٱلَّذِى مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُور}. قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ}. قرأ هذا الحرف نافع وأبو عمرو، {يَخْرُجُ} بضم الياء وفتح الراء مبنياً للمفعول، وعليه فاللؤلؤ نائب فاعل يخرج وقرأه باقي السبعة: {يَخْرُجُ} بفتح الياء وضم الراء مبنياً للفاعل، وعليه فاللؤلؤ فاعل يخرج.
اعلم أن جماعة من أهل العلم قالوا: إن المراد بقوله في هذه الآية يخرج منهما أي من مجموعها الصادق بالبحر الملح، وأن الآية من إطلاق المجموع وإرادة بعضه، وأن اللؤلؤ والمرجان لا يخرجان من البحر الملح وحده دون العذب.
وهذا القول الذي قالوه في هذه الآية مع كثرتهم وجلالتهم لا شك في بطلانه، لأن الله صرح بنقيضه في سورة فاطر، ولا شك أن كل ما ناقض القرآن فهو باطل، وذلك في قوله تعالى {وَمَا يَسْتَوِى ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَ} فالتنوين في قوله: {مِن كُلّ} تنوين عوض أي من كل واحد من العذب والملح تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلبسونها، وهي اللؤلؤ والمرجان، وهذا مما لا نزاع فيه.
وقد أوضحنا هذا في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى {يَـٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ} واللؤلؤ الدر، والمرجان الخرز الأحمر. وقال بعضهم: المرجان صغار الدر واللؤلؤ كباره. قوله تعالى: {وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِى ٱلْبَحْرِ كَٱلاٌّعْلَـٰمِ}. قد قدمنا الكلام عليه في سورة شورى في الكلام على قوله تعالى {وَمِنْ ءَايَـٰتِهِ ٱلْجَوَارِ فِى ٱلْبَحْرِ كَٱلاٌّعْلَـٰمِ}. قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍوَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلْـٰلِ وَٱلإِكْرَامِ}. ما تضمنته هذه الآية الكريمة من فناء كل من على الأرض وبقاء وجهه جل وعلا المتصف بالجلال والإكرام، جاء موضحاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}، وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْحَىِّ ٱلَّذِى لاَ يَمُوتُ}. وقوله تعالى {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ} إلى غير ذلك من الآيات.
والوجه صفة من صفات الله العلي وصف بها نفسه، فعلينا أن نصدق ربنا ونؤمن بما وصف به نفسه مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق.
وقد أوضحنا هذا غاية الإيضاح بالآيات القرآنية في سورة الأعراف، وفي سورة القتال. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَـٰرِ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ فَٱنفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَـٰنٍ}. قد قدمنا الكلام عليه في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى: {وَحَفِظْنَـٰهَا مِن كُلِّ شَيْطَـٰنٍ رَّجِيمٍ} وتكلمنا أيضاً هناك على غيرها من الآيات التي يفسرها الجاهلون بكتاب الله بغير معانيها، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. قوله تعالى: {فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَٱلدِّهَانِ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن السماء ستنشق يوم القيامة، وأنها إذا انشقت صارت وردة كالدهان، وقوله: {وَرْدَةً}: أي حمراء كلون الورد، وقوله {كَٱلدِّهَانِ}: فيه قولان معروفان للعلماء.
الأول منهما: أن الدهان هو الجلد الأحمر، وعليه فالمعنى أنها تصير وردة متصفة بلون الورد مشابهة للجلد الأحمر في لونه.
والثاني: أن الدهان هو ما يدهن به، وعليه، فالدهان، قيل: هو جمع دهن، وقيل: هو مفرد، لأن العرب تسمى ما يدهن به دهاناً، وهو مفرد، ومنه قول امرىء القيس: كأنهما مزادتا متعجل فريان لما تدهني بدهان

وحقيقة الفرق بين القولين أنه على القول بأن الدهان هو الجلد الأحمر، يكون الله وصف السماء عند انشقاقها يوم القيامة بوصف واحد وهو الحمرة فشبهها بحمرة الورد. وحمرة الأديم الأحمر. قال بعض أهل العلم: إنها يصل إليها حر النار فتحمر من شدة الحرارة. وقال بعض أهل العلم: أصل السماء حمراء إلا أنها لشدة بعدها وما دونها من الحواجز لم تصل العيون إلى إدراك لونها الأحمر على حقيقته، وأنها يوم القيامة ترى على حقيقة لونها.
وأما على القول بأن الدهان هو ما يدهن به، فإن الله وقد وصف السماء عند انشقاقها بوصفين أحدهما حمرة لونها، والثاني أنها تذوب وتصير مائعة كالدهن.
أما على القول الأول، فلم نعلم آية من كتاب الله تبين هذه الآية، بأن السماء ستحمر يوم القيامة حتى تكون كلون الجلد الأحمر.
وأما على القول الثاني الذي هو أنها تذوب وتصير مائعة، فقد أوضحه الله في غير هذا الموضع وذلك في قوله تعالى في المعارج {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ}، والمهل شيء ذائب على كلا القولين سواء قلنا: إنه دردي الزيت وهو عكره، أو قلنا إنه الذائب من حديد أو نحاس أو نحوهما.
وقد أوضح تعالى في الكهف أن المهل شيء ذائب يشبه الماء شديد الحرارة، وذلك في قوله تعالى: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِى ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقً}.
والقول بأن الوردة تشبيه الفرس الكميت وهو الأحمر لأن حمرته تتلون باختلاف الفصول، فتشتد حمرتها في فصل، وتميل إلى الصفرة في فصل، وإلى الغبرة في فصل.
وأن المراد بالتشبيه كون السماء عند انشقاقها تتلون بألوان مختلفة واضح البعد عن ظاهر الآية، وقول من قال: إنها تذهب وتجيء معناه له شاهد في كتاب الله، وذلك في قوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوْر}، ولكنه لا يخلو عندي من بعد.
وما ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة من انشقاق السماء يوم القيامة، جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى: {إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ} وقوله تعالى {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ وَٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ} وقوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلْغَمَـٰمِ}. وقوله: {إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنفَطَرَتْ}، وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة قۤ في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ}. قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْألُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه يوم القيامة لا يسأل إنساً ولا جاناً عن ذنبه، وبين هذا المعنى في قوله تعالى في القصص: {وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ}.
وقد ذكر جل وعلا في آيات أخر أنه يسأل جميع الناس يوم القيامة الرسل والمرسل إليهم، وذلك في قوله تعالى {فَلَنَسْألَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْألَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ}، وقوله {فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
وقد جاءت آيات من كتاب الله مبينة لوجه الجمع بين هذه الآيات، التي قد يظن غير العالم أن بينها اختلافاً، اعلم أولاً أن للسؤال المنفي في قوله هنا {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْألُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ}، وقوله {وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ} أخص من السؤال المثبت في قوله {فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، لأن هذه فيها تعميم السؤال في كل عمل، والآيتان قبلها ليس فيهما نفي السؤال إلا عن الذنوب خاصة، وللجمع بين هذه الآيات أوجه معروفة عند العلماء.
الأول منها: وهو الذي دل عليه القرآن، وهو محل الشاهد عندنا من بيان القرآن بالقرآن هنا، هو أن السؤال نوعان: أحدهما سؤال التوبيخ والتقريع وهو من أنواع العذاب، والثاني هو سؤال الاستخبار والاستعلام.
فالسؤال المنفي في بعض الآيات هو سؤال الاستخبار والاستعلام، لأن الله أعلم بأفعالهم منهم أنفسهم كما قال تعالى: {أَحْصَـٰهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُ}.
وعليه فالمعنى لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان، سؤال استخبار واستعلام لأن الله أعلم بذنبه منه.
والسؤال المثبت في الآيات الأخرى هو سؤال التوبيخ والتقريع، سواء كان عن ذنب أو غير ذنب، ومثال سؤالهم عن الذنوب سؤال توبيخ وتقريع قوله تعالى: {فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـٰنِكُمْ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}، ومثاله عن غير ذنب قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنَـٰصَرُونَ بِلْ هُمُ ٱلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} وقوله تعالى {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَـٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا}، وقوله {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ} .
أما سؤال الموءودة في قوله: {وَإِذَا ٱلْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} فلا يعارض الآيات النافية السؤال عن الندب، لأنها سئلت عن أي ذنب قتلت وهذا ليس من ذنبها، والمراد بسؤالها توبيخ قاتلها وتقريعه، لأنها هي تقول لا ذنب لي، فيرجع اللوم على من قتلها ظلماً.
وكذلك سؤال الرسل، فإن المراد به توبيخ من كذبهم وتقريعه، مع إقامة الحجة عليه بأن الرسل قد بلغته، وباقي أوجه الجمع بين الآيات لا يدل عليه قرآن، وموضوع هذا الكتاب بيان القرآن بالقرآن، وقد بينا بقيتها في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في أول سورة الأعراف.
وقد قدمنا طرفاً من هذا الكتاب المبارك في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى: {فَلَنَسْألَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْألَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ} . قوله تعالى: {يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَـٰهُمْ فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِى وَٱلاٌّقْدَامِ}. قوله: {بِسِيمَـٰهُمْ}: أي بعلامتهم المميزة لهم، وقد دل القرآن على أنها هي سواد وجوههم وزرقة عيونهم، كما قال تعالى {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} ، وقال تعالى: {وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} ، وقال تعالى: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ ٱلَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ} ، وقال تعالى {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ} ، لأن معنى قوله {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} أي يعلوها ويغشاها سواد كالدخان الأسود، وقال تعالى في زرقة عيونهم: {وَنَحْشُرُ ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْق} ولا شيء أقبح وأشوه من سواد الوجوه وزرقة العيون، ولذا لما أراد الشاعر أن يقبح علل البخيل بأسوإ الأوصاف وأقبحها، فوصفها بسواد الوجوه وزرقة العيون حيث قال:
وللبخيل على أمواله علل زرق العيون عليها أوجه سود

ولا سيما إذا اجتمع مع سواد الوجه اغبراره، كما في قوله: {عَلَيْهَا غَبَرَةٌتَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} فإن ذلك يزيده قبحاً على قبح.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِى وَٱلاٌّقْدَامِ}، وقد قدمنا تفسيره والآيات الموضحة له في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} .