تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 550 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 550

549

6- " لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة " أي لقد كان لكم في إبراهيم والذين معه قدوة حسنة، وكرر هذا للمبالغة والتأكيد. وقيل إنهذا نزل بعد الأول بمدة "لمن كان يرجو الله واليوم الآخر" بدل من قوله لكم بدل بعض من كل. والمعنى: أن هذه الأسوة إنما تكون لمن يخاف الله ويخاف عقاب الآخرة، أو يطمع في الخير من الله في الدنيا وفي الآخرة "ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد" أي يعرض عن ذلك، فإن الله هو الغني عن خلقه الحميد إلى أوليائه.
7- "عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة" وذلك بأن يسلموا فيصيروا من أهل دينكم، وقد أسلم قوم منهم بعد فتح مكة، وحسن إسلامهم، ووقعت بينهم وبين من تقدمهم في الإسلام مودة وجاهدوا وفعلوا الأفعال المقربة إلى الله. وقيل المراد بالمودة هنا تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان. ولا وجه لهذا التخصيص وإن كان من جملة ما صار سبباً إلى المودة. فإن أبا سفيان بعد ذلك ترك ما كان عليه من العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنها لم تحصل المودة إلا بإسلامه يوم الفتح وما بعده "والله قدير" أي بليغ القدرة كثيرها "والله غفور رحيم" أي بليغهما كثيرهما.
ثم لما ذكر سبحانه ما ينبغي للمؤمنين من معاداة الكفار وترك موادتهم فصل القول فيمن يجوز بره منهم ومن لا يجوز فقال: 8- "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم" أي لا ينهاكم عن هؤلاء "أن تبروهم" هذا بدل من الموصول بدل اشتمال. وكذا قوله: "وتقسطوا إليهم" يقال أقسطت إلى الرجل: إذا عاملته بالعدل. قال الزجاج: المعنى وتعدلوا فيما بينكم وبينهم من الوفاء بالعهد "إن الله يحب المقسطين" أي العادلين، ومعنى الآية: أن الله سبحانه لا ينهى عن بر أهل العهد من الكفار الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال، وعلى أن لا يظاهروا الكفار عليهم. ولا ينهى عن معاملتهم بالعدل. قال ابن زيد: كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتار ثم نسخ. قال قتادة: نسختها "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" وقيل هذا الحكم كان ثابتاً في الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فلما زال الصلح بفتح مكة نسخ الحكم. وقيل هي خاصة في حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ومن بينه وبينه عهد قاله الحسن. وقال الكلبي: هم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف. وقال مجاهد: هي خاصة في الذين آمنوا ولم يهاجروا، وقيل هي خاصة بالنساء والصبيان. وحكى القرطبي عن أكثر أهل التأويل أنها محكمة.
ثم بين سبحانه من لا يحل بره ولا العدل في معاملته فقال: 9- "إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم" وهم صناديد الكفر من قريش "وظاهروا على إخراجكم" أي عاونوا الذين قاتلوكم على ذلك، وهم سائر أهل مكة ومن دخل معهم في عهدهم، وقوله: "أن تولوهم" بدل اشتمال من الموصول كما سلف "ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون" أي الكاملون في الظلم لأنهم تولوا من يستحق العداوة لكونه عدواً لله ولرسوله ولكتابه وجعلوهم أولياء لهم. وقد أخرج ابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن عباس "إلا قول إبراهيم لأبيه" قال: نهوا أن يتأسوا باستغفار إبراهيم لأبيه، وقوله: "ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا" لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك، فيقولون لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم هذا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه "لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة" قال: في صنيع إبراهيم كله إلا في الاستغفار لأبيه، وهو مشرك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "لا تجعلنا فتنة للذين كفروا" قال:لا تسلطهم علينا فيفتنونا. وأخرج ابن مردويه عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: أول من قاتل أهل الردة على إقامة دين الله أبو سفيان بن حرب وفيه نزلت هذه الآية: " عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة ". وأخرج ابن أبي حاتم عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل أبا سفيان بن حرب على بعض اليمن، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ذا الخمار مرتداً، فكان أول من قاتل في الردة وجاهد عن الدين. قال: وهو فيمن قال الله فيه: "عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة". وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن عدي ابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في الآية قال: كانت المودة التي جعل بينهم تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، فصارت أم المؤمنين: فصار معاوية خال المؤمنين. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس "أن أبا سفيان قال:يا رسول الله ثلاث أعطنيهن. قال: نعم، قال: تؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال نعم، قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك، قال: نعم، قال: وعندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها" الحديث. وأخرج الطيالسي وأحمد والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه والحاكم وصححه وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال: قدمت قتيلة بنت عبد العزى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا: ضباب وأقط وسمن وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها حتى أرسلت إلى عائشة أن سلي عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته. فأنزل الله: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين" الآية، فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها، وزاد ابن أبي حاتم في المدة التي كانت بين قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي البخاري وغيره عن أسماء بنت أبي بكر قالت: "أتتني أمي راغبة وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أأصلها؟ فأنزل الله: "لا ينهاكم الله" الآية، فقال: نعم صلي أمك".
لما ذكر سبحانه حكم فريقي الكافرين في جواز البر والإقساط للفريقين الأول دون الفريق الثاني ذكر حكم من يظهر الإيمان، فقال: 10- "يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات" من بين الكفار وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح قريشاً يوم الحديبية على أن يرد عليهم من جاءهم من المسلمين، فلما هاجر إليه النساء أبى الله أن يرددن إلى المشركين، وأمر بامتحانهن فقال: "فامتحنوهن" أي فاختبروهن. وقد اختلف فيما كان يمتحن به، فقيل [كن يستحلفن] بالله ما خرجن من بغض زوج ولا رغبة من أرض إلى أرض ولا لالتماس دنيا بل حباً لله ولرسوله ورغبة في دينه، فإذا حلفت كذلك أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها، وما أنفق عليها ولم يردها إليه، وقيل الامتحان هو أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وقيل ما كان الامتحان إلا بأن يتلو عليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية. وهي: "يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات" إلى آخرها. واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عهد الهدنة أم لا؟ على قولين، فعلى القول بالدخول تكون هذه الآية مخصصة لذلك العهد، وبه قال الأكثر. وعلى القول بعدمه لا نسخ ولا تخصيص "الله أعلم بإيمانهن" هذه الجملة معترضة لبيان أن حقيقة حالهن لا يعلمها إلا الله سبحانه ولم يتعبدكم بذلك، وإنما تعبدكم بامتحانهن حتى يظهر لكم ما يدل على صدق دعواهن في الرغوب في الإسلام "فإن علمتموهن مؤمنات" أي علمتم ذلك بحسب الظاهر بعد الامتحان الذي أمرته به "فلا ترجعوهن إلى الكفار" أي إلى أزواجهن الكافرين، وجملة "لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن" تعليل للنهي عن إرجعاهن. وفيه دليل على أن المؤمنة لا تحل لكافر، وأن إسلام المرأة يوجب فرقتها من زوجها لا مجرد هجرتها، والتكرير لتأكيد الحرمة، أو الأول لبيان زوال النكاح، والثاني لامتناع النكاح الجديد "وآتوهم ما أنفقوا" أي وأعطوا أزواج هؤلاء اللاتي هاجرن وأسلمن مثل ما أنفقوا عليهن من المهور. قال الشافعي: وإذا طلبها غير الزوج من قراباتها منع منها بلا عوض "ولا جناح عليكم أن تنكحوهن" لأنهن قد صرن من أهل دينكم "إذا آتيتموهن أجورهن" أي مهورهن، وذلك بعد انقضاء عدتهن كما تدل عليه أدلة وجوب العدة "ولا تمسكوا بعصم الكوافر" قرأ الجمهور "تمسكوا" بالتخفيف من الإمساك، واختار هذه القراءة أبو عبيد، لقوله: "فأمسكوهن بمعروف" وقرأ الحسن وأبو العالية وأبو عمرو بالتشديد من التمسك، والعصم جمع عصمة، وهي ما يعتصم به، والمراد هنا عصمة عقد النكاح. والمعنى أن من كانت له امرأة كافرة فليست له بامرأة لانقطاع عصمتها باختلاف الدين. قال النخعي: هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر، وكان الكفار يزوجون المسلمين، والمسلمون يتزوجون المشركات، ثم نسخ ذلك بهذه الآية وهذا خاص بالكوافر المشركات دون الكوافر من أهل الكتاب. وقيل عامة في جميع الكوافر مخصصة بإخراج الكتابيات منها. وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه إذا أسلم وثني أو كتابي لا يفرق بينهما إلا بعد انقضاء العدة. وقال بعض أهل العلم: يفرق بينهما بمجرد إسلام الزوج، وهذا إنما هو إذا كانت المرأة مدخولاً بها، وأما إذا كانت غير مدخول بها فلا خلاف بين أهل العلم في انقطاع العصمة بينهما بالإسلام إذ لا عدة عليها "واسألوا ما أنفقتم" أي اطلبوا مهور نسائكم اللاحقات بالكفار "وليسألوا ما أنفقوا" قال المفسرون: كان من ذهب من المسلمات مرتدة إلى الكفار من أهل العهد يقال للكفار هاتوا مهرها، ويقال للمسلمين إذا جاءت امرأة من الكفار إلى المسلمين وأسلمت ردوا مهرها على زوجها الكافر "ذلكم حكم الله" أي ذلكم المذكور من إرجاع المهور من الجهتين حكم الله، وقوله: "يحكم بينكم" في محل نصب على الحال. أو مستأنفة "والله عليم حكيم" أي بليغ العلم لا تخفى عليه خافية بليغ الحكمة في أقواله وأفعاله.
قال القرطبي: وكان هذا مخصوصاً بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع المسلمين. "وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار" لما نزلت الآية المتقدمة قال المسلمون: رضينا بحكم الله وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا.فنزل قوله: 11- "وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار" مما دفعتم إليهم من مهور النساء المسلمات، وقيل المعنى: وإن انفلت منكم أحد من نسائكم إلى الكفار بأن ارتدت المسلمة "فعاقبتم" قال الواحدي: قال المفسرون: فعاقبتم فغنمتم. قال الزجاج: تأويله وكانت العقبى لكم: أي كانت الغنيمة لكم حتى غنمتم "فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا" من مهر المهاجرة التي تزوجوها وادفعوه إلى الكفار ولا تؤتوه زوجها الكافر. قال قتادة ومجاهد: إنما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة، وهذه الآية منسوخة قد انقطع حكمها بعد الفتح. وحاصل معناها أن من أزواجكم يجوز أن يتعلق بفاتكم أي من جهة أزواجكم، ويراد بالشيء المهر الذي غرمه الزوج، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لشيء. ثم يجوز في شيء أن يراد به المهر، ولكن لا بد على هذا من مضاف محذوف: أي من مهر أزواجكم ليتطابق الموصوف، وصفته، ويجوز أن يراد بشيء النساء: ي نوع وصنف منهن، وهو ظاهر قوله: "من أزواجكم" وقوله: "فآتوا الذين ذهبت أزواجهم" والمعنى: أنهم يعطون من ذهبت زوجته إلى المشركين فكفرت ولم يرد عليه المشركون مهرها كما حكم الله مثل ذلك المهر الذي أنفقه عليها من الغنيمة "واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون" أي احذروا أن تتعرضوا لشيء مما يوجب العقوبة عليكم، فإن الإيمان الذي أنتم متصفون به يوجب على صاحبه ذلك.