تفسير الطبري تفسير الصفحة 582 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 582
583
581
 سورة النبأ مكيّة
وآياتها أربعون
بسم الله الرحمَن الرحيـم

الآية : 1-5
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{عَمّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النّبَإِ الْعَظِيمِ * الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلاّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمّ كَلاّ سَيَعْلَمُونَ }.
يقول تعالى ذكره: عن أيّ شيء يتساءل هؤلاء المشركون بالله ورسوله من قريش يا محمد؟ وقيل ذلك له صلى الله عليه وسلم, وذلك أن قريشا جعلت فيما ذُكر عنها تختصم وتتجادل, في الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار بنبوّته, والتصديق بما جاء به من عند الله, والإيمان بالبعث, فقال الله لنبيه: فيم يتساءل هؤلاء القوم ويختصمون؟ و «في» و «عن» في هذا الموضع بمعنى واحد. ذكر من قال ما ذكرت:
27827ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع بن الجراح, عن مِسعر, عن محمد بن جحادة, عن الحسن, قال: لما بُعِث النبيّ صلى الله عليه وسلم جعلوا يتساءلون بينهم, فأنزل الله: عَمّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النّبَأ العَظِيم يعني: الخبر الْعظيم.
قال أبو جعفر: ثم أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن الذي يتساءلونه, فقال: يتساءلون عن النبأ العظيم: يعني: عن الخبر العظيم.
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بالنبأ العظيم, فقال بعضهم: أريد به القرآن. ذكر من قال ذلك:
27828ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: عَن النّبَأ الْعَظِيمِ قال: القرآن.
وقال آخرون: عُنِي به البعث. ذكر من قال ذلك:
27829ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, في قوله: عَنِ النّبَأ الْعَظِيمِ وهو البعث بعد الموت.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن سعيد, عن قتادة عَنِ النّبَأ الْعَظِيمِ قال: النبأ العظيم: البعث بعد الموت.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: عَمّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النّبَأ الْعَظِيمِ الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ قال: يوم القيامة قال: قالوا هذا اليوم الذي تزعمون أنا نحيا فيه وآباؤنا, قال: فهم فيه مختلفون, لا يؤمنون به, فقال الله: بل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون, يوم القيامة لا يؤمنون به.
وكان بعض أهل العربية يقول: معنى ذلك: عمّ يتحدّث به قريش في القرآن, ثم أجاب فصارت عمّ كأنها في معنى: لأيّ شيء يتساءلون عن القرآن, ثم أخبر فقال: الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ بين مصدق ومكذّب, فذلك إخلافهم, وقوله: الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ يقول تعالى ذكره: الذي صاروا هم فيه مختلفون فريقين: فريق به مصدّق, وفريق به مكذّب. يقول تعالى ذكره: فتساؤلهم بينهم في النبأ الذي هذه صفته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
27830ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سعيد, عن قتادة عن النبأ الّذِي همْ فِيهِ مُخْتَلِفونَ البعث بعد الموت, فصار الناس فيه فريقين: مصدّق ومكذّب, فأما الموت فقد أقرّوا به لمعاينتهم إياه, واختلفوا في البعث بعد الموت.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ: صار الناس فيه رجلين: مصدّق, ومكذّب, فأما الموت فإنهم أقروا به كلهم, لمعاينتهم إياه, واختلفوا في البعث بعد الموت.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ قال: مصدّق ومكذّب.
وقوله: كَلاّ يقول تعالى ذكره: ما الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون الذين ينكرون بعث الله إياهم أحياء بعد مماتهم, وتوعدهم جلّ ثناؤه على هذا القول منهم, فقال: سَيَعْلَمُونَ يقول: سيعلم هؤلاء الكفار المُنكرون وعيد الله أعداءه, ما الله فاعل بهم يوم القيامة, ثم أكد الوعيد بتكرير آخر, فقال: ما الأمر كما يزعمون من أن الله غير محييهم بعد مماتهم, ولا معاقبهم على كفرهم به, سيعلمون أن القول غير ما قالوا إذا لقُوا الله, وأفضوا إلى ما قدّموا من سيىء أعمالهم. وذكر عن الضحاك بن مزاحم في ذلك ما:
27831ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن أبي سنان, عن ثابت, عن الضحاك كَلاّ سَيَعْلَمُونَ الكفار ثُمّ كَلاّ سَيَعْلَمُونَ المؤمنون, وكذلك كان يقرؤها.

الآية : 6-11
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً * وَجَعَلْنَا اللّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النّهَارَ مَعَاشاً }.
يقول تعالى ذكره معدّدا على هؤلاء المشركين نِعَمه وأياديه عندهم, وإحسانه إليهم, وكفرانهم ما أنعم به عليهم, ومتوعدهم بما أعدّ لهم عند ورودهم عليه, من صنوف عقابه, وأليم عذابه, فقال لهم: أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ لكم مِهادا تمتهدونها وتفترشونها.
27832ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سعيد, عن قتادة ألَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهادا: أي بساطا والجِبالَ أوْتادا يقول: والجبال للأرض أوتادا أن تميد بكم وَخَلَقْناكُمْ أزْوَاجا ذُكرانا وإناثا, وطوالاً وقصارا, أو ذوي دَمامة وجمال, مثل قوله: الّذِينَ ظَلَموا وَأزْوَاجَهُمْ يعني به: صيرناهم. وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتا يقول: وجعلنا نومكم لكم راحة ودَعة, تهدؤن به وتسكنون, كأنكم أموات لا تشعرون, وأنتم أحياء لم تفارقكم الأرواح والسبت والسبات: هو السكون, ولذلك سمي السبت سبتا, لأنه يوم راحة ودعة. وَجَعَلْنا اللّيْلَ لِباسا يقول تعالى ذكره: وجعلنا الليل لكم غِشاء يتغشاكم سواده, وتغطيكم ظلمته, كما يغطي الثوبُ لابسَه, لتسكنوا فيه عن التصرّف لما كنتم تتصرّفون له نهارا ومنه قول الشاعر:
فلمّا لَبِسْن اللّيْلَ أوْ حِينَ نَصّبَتْله مِنْ خَذا آذانِها وَهْوَ دَالِجُ
يعني بقوله «لبسن الليل»: أدخلن في سواده فاستترن به. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
27833ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن قتادة وَجَعَلْنا اللّيْلَ لِباسا قال: سكنا.
وقوله: وَجَعَلْنا النّهارَ مَعاشا يقول: وجعلنا النهار لكم ضياء لتنتشروا فيه لمعاشكم, وتتصرّفوا فيه لمصالح دنياكم, وابتغاء فضل الله فيه, وجعل جلّ ثناؤه النهار إذ كان سببا لتصرّف عباده لطلب المعاش فيه معاشا, كما في قول الشاعر:
وأخُو الهُموم إذا الهُمُوم تَحَضّرَتْجُنْحَ الظّلامِ وِسادُهُ لا يَرْقُدُ
فجعل الوساد هو الذي لا يرقد, والمعنى لصاحب الوساد.
27834ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: النّهارَ مَعاشا قال: يبتغون فيه من فضل الله.

الآية : 12-14
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً * وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهّاجاً * وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجّاجاً }.
يقول تعالى ذكره: وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ: وسقفنا فوقكم, فجعل السقف بناء, إذ كانت العرب تسمي سقوف البيوت, وهي سماؤها بناءً, وكانت السماء للأرض سقفا, فخاطبهم بلسانهم, إذ كان التنزيل بلسانهم, وقال: سَبْعا شِدَادا إذ كانت وثاقا محكمة الخلق, لا صدوع فيهنّ ولا فطور, ولا يبليهن مرّ الليالي والأيام.
وقوله: وَجَعَلْنا سِرَاجا وَهّاجا يقول تعالى ذكره: وجعلنا سراجا, يعني بالسراج: الشمس. وقوله وَهّاجا يعني: وقادا مضيئا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
27835ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, في قوله: وَجَعَلْنا سِرَاجا وَهّاجا يقول: مضيئا.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس وَجَعَلْنَا سِرَاجا وهّاجا يقول: سراجا منيرا.
27836ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: سِرَاجا وَهّاجا قال: يتلألأ.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة سِرَاجا وَهّاجا قال: الوهاج: المنير.
27837ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان سِرَاجا وَهّاجا قال: يتلألأ ضوءه.
وقوله: وأنْزَلْنا مِنَ المُعْصِرَاتِ اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالمعصِرات, فقال بعضهم: عُنِي بها الرياح التي تعصر في هبوبها. ذكر من قال ذلك:
27838ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَأنْزَلْنا مِنَ المُعْصِرَاتِ فالمعصرات: الريح.
27839ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا الحسين, عن يزيد, عن عكرِمة, أنه كان يقرأ: «وَأنْزَلْنا بالمُعْصِرَاتِ» يعني: الرياح.
27840ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى: عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: مِنَ المُعْصِرَاتِ قال: الريح.
وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
27841ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: هي في بعض القراءات: «وَأنْزَلْنا بالمُعْصِرَاتِ»: الرياح.
27842ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَأنْزَلْنا مِنَ المُعْصِراتِ قال: المعصرات: الرياح, وقرأ قول الله: الّذِي يُرْسِلُ الرّياحَ فَتُثِيرُ سَحَابا... إلى آخر الاَية.
وقال آخرون: بل هي السحاب التي تتحلب بالمطر ولمّا تمطر, كالمرأة المعصر التي قد دنا أوان حيضها ولم تحض. ذكر من قال ذلك:
27843ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان مِنَ المُعْصِرَاتِ قال: المعصرات: السحاب.
27844ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله وأنْزَلْنا مِنَ المُعْصِراتِ يقول: من السحاب.
27845ـ قال: ثنا مهران, عن أبي جعفر, عن الربيع المُعْصِراتِ: السحاب.
وقال آخرون: بل هي السماء. ذكر من قال ذلك:
27846ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن عُلَية, عن أبي رجاء, قال: سمعت الحسن يقول: وَأنْزَلْنا مِنَ المُعْصِرَاتِ قال: من السماء.
27847ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَأنْزَلْنا مِنَ المُعْصِرَاتِ قال: من السموات.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, قوله: وأنْزَلْنا مِنَ المُعْصِراتِ قال: من السماء.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه أنزل من المعصِرات, وهي التي قد تحلبت بالماء من السحاب ماء.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب, لأن القول في ذلك على أحد الأقوال الثلاثة التي ذكرت, والرياح لا ماء فيها, فينزل منها, وإنما ينزل بها, وكان يصحّ أن تكون الرياح, ولو كانت القراءة: «وَأنْزَلْنا بالمُعْصِرَاتِ» فلما كانت القراءة: منَ المُعْصِرَاتِ علم أن المعنيّ بذلك ما وصفت.
فإن ظنّ ظانّ أن الباء قد تعقب في مثل هذا الموضع من قيل ذلك, وإن كان كذلك, فالأغلب من معنى «من» غير ذلك, والتأويل على الأغلب من معنى الكلام. فإن قال: فإن السماء قد يجوز أن تكون مرادا بها. قيل: إن ذلك وإن كان كذلك, فإن الأغلب من نزول الغيث من السحاب دون غيره.
وأما قوله: مَاءً ثَجّاجا يقول: ماء منصبا يتبع بعضه بعضا, كثجّ دماء البدن, وذلك سفكها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
27848ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس ماءً ثَجّاجا قال: منصبا.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس ماءً ثَجّاجا ماء من السماء منصبا.
27849ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ماءً ثَجّاجا قال: منصبا.
27850ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة: ماءً ثَجّاجا قال: الثجاج: المنصب.
27851ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن أبي جعفر, عن الربيع: مَاءً ثَجّاجا قال: منصبا.
27852ـ قال: ثنا مهران, عن سفيان ماءً ثَجّاجا قال: متتابعا.
وقال بعضهم: عُنِي بالثجّاج: الكثير. ذكر من قال ذلك:
27853ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب ماءً ثَجّاجا قال: كثيرا.
ولا يُعرف في كلام العرب من صفة الكثرة الثجّ, وإنما الثجّ: الصبّ المتتابع. ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أفْضَلُ الحَجّ العَجّ والثّجّ»: يعني بالثجّ: صبّ دماء الهدايا والبُدن بذبحها, يقال منه: ثَجَجت دمه, فأنا أُثجّه ثجا, وقد ثَجّ الدم, فهو يثجّ ثجوجا.
الآية : 15-20
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{لّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنّاتٍ أَلْفَافاً * إِنّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً * يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً * وَفُتِحَتِ السّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً * وَسُيّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً }.
يقول تعالى ذكره: لنخرج بالماء الذي ننزله من المعصِرات إلى الأرض حبا والحب كلّ ما تضمنه كمام الزرع التي تحصد, وهي جمع حبة, كما الشعير جمع شعيرة, وكما التمر جمع تمرة. وأما النبات فهو الكلأ الذي يُرْعَى, من الحشيش والزروع.
وقوله: وَجَنّاتٍ ألْفافا يقول: ولنخرج بذلك الغيث جنات وهي البساتين وقال: وجنات, والمعنى: وثمر جنات, فترك ذكر الثمر استغناء بدلالة الكلام عليه من ذكره. وقوله: ألْفافا يعني: ملتفة مجتمعة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
27854ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: وجَنّاتٍ أَلْفافا قال: مجتمعة.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس وَجَنّاتٍ ألْفافا يقول: وجنات التفّ بعضها ببعض.
27855ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد وَجَنّاتٍ ألْفافا قال: ملتفة.
27856ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَجَنّاتٍ ألْفافا قال: التفّ بعضها إلى بعض.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله وَجَنّاتٍ ألْفافا قال: التفّ بعضها إلى بعض.
27857ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان وَجَنّاتٍ ألْفافا قال: ملتفة.
27858ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَجَنّاتٍ ألْفافا قال: هي الملتفة, بعضها فوق بعض.
واختلف أهل العربية في واحد الألفاف, فكان بعض نحويّي البصرة يقول: واحدها: لَفّ. وقال بعض نحويّي الكوفة: واحدها: لَفّ ولفيف قال: وإن شئت كان الألفاف جمعا, واحده جمع أيضا, فتقول: جنة لفّاء, وجنات لَفّ, ثم يجمع اللّفّ ألفافا.
وقال آخر منهم: لم نسمع شجرة لفة, ولكن واحدها لفاء, وجمعها لفّ, وجمع لفّ: ألفاف, فهو جمع الجمع.
والصواب من القول في ذلك أن الألفاف جمع لَفّ أو لفيف, وذلك أن أهل التأويل مجمعون على أن معناه: ملتفة, واللّفاء: هي الغليظة, وليس الالتفاف من الغلظ في شيء, إلاّ أن يوجه إلى أنه غلظ الالتفاف, فيكون ذلك حينئذٍ وجها.
وقوله: إنّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتا يقول تعالى ذكره: إن يوم يفصل الله فيه بين خلقه, فيأخذ فيه من بعضهم لبعض, كان ميقاتا لما أنفذ الله لهؤلاء المكذّبين بالبعث, ولضربائهم من الخلق. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
27859ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتا وهو يوم عظّمه الله, يفصِل الله فيه بين الأوّلين والاَخرين بأعمالهم.
وقوله: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصّورِ تَرْجَم بيوم ينفخ, عن يوم الفصل, فكأنه قيل: يوم الفصل كان أجلاً لما وعدنا هؤلاء القوم, يوم ينفخ في الصور. وقد بيّنت معنى الصور فيما مضى قبل, وذكرت اختلاف أهل التأويل فيه, فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع, وهو قَرْن يُنْفَخ فيه عندنا, كما:
27860ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن سليمان التيميّ, عن أسلم, عن بشر بن شغاف, عن عبد الله بن عمرو, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, قال: «الصّور: قَرْن».
27861ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصّورِ والصّور: الخَلْق.
وقوله: فَتأْتُونَ أفْوَاجا يقول: فيجيئون زمرا زمرا, وجماعة جماعة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
27862ـ حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: أفْوَاجا قال: زُمَرا زُمَرا.
وإنما قيل: فَتأْتُونَ أفْوَاجا لأن كلّ أمة أرسل الله إليها رسولاً تأتي مع الذي أرسل إليها, كما قال: يَوْمَ نَدْعُو كُلّ أُناسٍ بإمامِهِمْ.
وقوله: وَفُتِحَتِ السّماءُ فَكانَتْ أبْوَابا يقول تعالى ذكره: وشققت السماء فصدّعت, فكانت طُرُقا, وكانت من قبل شِدادا لا فُطُور فيها ولا صدوع. وقيل: معنى ذلك: وفُتحت السماء فكانت قِطعا كقطع الخشب المشقّقة لأبواب الدور والمساكن. قالوا: ومعنى الكلام: وفُتحت السماء فكانت قِطعا كالأبواب, فلما أسقطت الكاف صارت الأبواب الخبر, كما يقال في الكلام: كان عبد الله أسدا, يعني: كالأسد.
وقوله: وَسُيّرَتِ الجِبالُ فَكانَتْ سَرَابا يقول: ونُسفت الجبال فاجْتُثت من أصولها, فصيرت هباء منبثا, لعين الناظر, كالسراب الذي يظنّ من يراه من بُعد ماء, وهو في الحقيقة هبَاء.
الآية : 21-25
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{إِنّ جَهَنّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لّلطّاغِينَ مَآباً * لاّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً * لاّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً * إِلاّ حَمِيماً وَغَسّاقاً }.
يعني تعالى ذكره بقوله: إن جهنم كانت ذات رَصْد لأهلها, الذين كانوا يكذّبون في الدنيا بها, وبالمعاد إلى الله في الاَخرة, ولغيرهم من المصدّقين بها. ومعنى الكلام: إن جهنم كانت ذات ارتقاب, ترقب من يجتازها وترصُدهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
27863ـ حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة, قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم, عن عبد الله بن بكر بن عبد الله المازنيّ, قال: كان الحسن إذا تلا هذه الاَية: إنّ جَهَنّمَ كانَتْ مرْصَادا قال: ألا إنّ على الباب الرّصَد, فمن جاء بجواز جاز, ومن لم يجىء بجواز احتبس.
27864ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا إسماعيل بن عُلَية, عن أبي رجاء, عن الحسن, في قوله إنّ جَهَنّمَ كانَتْ مِرْصَادا قال: لا يدخل الجنة أحد حتى يجتاز النار.
27865ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّ جَهَنّمَ كانَتْ مِرْصَادا يُعْلِمُنا أنه لا سبيل إلى الجنة حتى يَقطَع النار.
27866ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان إنّ جَهَنّمَ كانَتْ مِرْصَادا قال: عليها ثلاث قناطر.
وقوله: للطّاغِينَ مآبا يقول تعالى ذكره: إن جهنم للذين طَغَوا في الدنيا, فتجاوزوا حدود الله, استكبارا على ربهم, كانت منزلاً ومرجعا يرجعون إليه, ومصيرا يصيرون إليه يسكنونه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
27867ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة للطّاغِينَ مآبا: أي منزلاً ومأوًى.
27868ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران عن سفيان مآبا يقول: مرجعا ومنزلاً.
وقوله: لابِثِينَ فِيها أحْقابا يقول تعالى ذكره: إن هؤلاء الطاغين في الدنيا لابثون في جهنم, فماكثون فيها أحقابا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: لابِثِينَ, فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة: لابِثِينَ بالألف. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: «لَبِثِينَ» بغير ألف وأفصح القراءتين وأصحهما مخرجا في العربية, قراءة من قرأ ذلك بالألف وذلك أن العرب لا تكاد توقع الصفة إذا جاءت على فَعيل, فتعملها في شيء, وتنصبه بها, لا يكادون أن يقولوا: هذا رجل بَخِل بماله, ولا عَسِر علينا, ولا هو خَصِم لنا, لأن فَعِل لا يأتي صفة إلاّ مدحا أو ذما, فلا يعمل المدح والذمّ في غيره, وإذا أرادوا إعمال ذلك في الاسم أو غيره جعلوه فاعلاً, فقالوا: هو باخل بماله, وهو طامع فيما عندنا, فلذلك قلت: إن لابِثِينَ أصحّ مخرجا في العربية وأفصح, ولم أُحِلّ قراءة من قرأ: «لَبِثِينَ» وإن كان غيرُها أفصح, لأن العرب ربما أعملت المدح في الأسماء, وقد يُنشد بيت لبيد:
أوْ مِسْحَلٌ عَمِلٌ عِضَادَةَ سَمْحَجٍبِسَرَاتِها نَدَبٌ لَهُ وكُلُومُ
فأعمل «عَمِلٌ» في عِضادة, ولو كانت عاملاً كانت أفصح, ويُنشد أيضا:
وبالفأسِ ضَرّابٌ رُؤُوسَ الكَرَانِفِ
ومنه قول عباس بن مِرداس:
أكَرّ وأحْمَى لِلْحَقِيقَةِ مِنْهُمُوأضْرَبَ مِنّا بالسّيُوفِ الْقَوَانِسا
وأما الأحقاب فجمع حُقْب, والحِقَب: جمع حِقْبة, كما قال الشاعر:
عِشْنا كَنَدْمانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةًمِنَ الدّهْرِ حتى قيلَ لَنْ نَتَصَدّعا
فهذه جمعها حِقَب, ومن الأحقاب التي جمعها حُقُب قول الله: أوْ أمْضِيَ حُقُبا فهذا واحد الأحقاب.
وقد اختلف أهل التأويل في مبلغ مدة الحُقُب, فقال بعضهم: مدة ثلاث مئة سنة. ذكر من قال ذلك:
27869ـ حدثنا عمران بن موسى القزاز, قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد, قال: حدثنا إسحاق بن سُويد, عن بشير بن كعب, في قوله: لابِثِينَ فِيها أحْقابا قال: بلغني أن الحُقُب ثلاث مئة سنة, كلّ سنة ثلاث مئة وستون يوما, كل يوم ألف سنة.
وقال آخرون: بل مدة الحُقْب الواحد: ثمانون سنة. ذكر من قال ذلك:
27870ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, قال: ثني عمار الدّهْنيّ, عن سالم بن أبي الجعد, قال: قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه لهلال الهجَرِيّ: ما تجدون الحُقُب في كتاب الله المنزل؟ قال: نجده ثمانين سنة كل سنة اثنا عشر شهرا, كل شهر ثلاثون يوما, كل يوم ألف سنة.
27871ـ حدثنا تميم بن المنتصر, قال: أخبرنا إسحاق, عن شريك, عن عاصم بن أبي النّجود, عن أبي صالح, عن أبي هريرة: أنه قال: الحُقُب: ثمانون سنة, والسنة: ستون وثلاث مئة يوم, واليوم: ألف سنة.
27872ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن أبي سنان, عن ابن عباس, قال: الحُقْب: ثمانون سنة.
27873ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا جابر بن نوح, قال: حدثنا الأعمش, عن سعيد, بن جُبير, في قوله: لابِثِينَ فِيها أحْقابا قال: الحقب: ثمانون سنة, السنة: ثلاث مئة وستون يوما, اليوم: سنة أو ألف سنة «الطبري يشكّ».
27874ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال الله: لابِثِينَ فِيها أحْقابا وهو ما لا انقطاع له, كلما مضى حُقُبٌ جاء حُقُب بعده. وذُكر لنا أن الحُقُبَ ثمانون سنة.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: أحْقابا قال: بلغنا أن الحُقب ثمانون سنة من سِني الاَخرة.
27875ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن أبي جعفر, عن الربيع بن أنس لابِثِينَ فِيها أحْقابا لا يعلم عدّة هذه الأحقاب إلاّ الله, ولكن الحُقُبَ الواحد: ثمانون سنة, والسنة: ثلاث مئة وستون يوما, كلّ يوم من ذلك ألف سنة.
وقال آخرون: الحُقُب الواحد: سبعون ألف سنة. ذكر من قال ذلك:
27876ـ حدثني ابن عبد الرحيم البرقي, قال: ثني عمرو بن أبي سلمة, عن زهير, عن سالم, قال: سمعت الحسن يُسْألُ عن قول الله: لابِثِينَ فِيها أحْقابا قال: أما الأحقاب فليس لها عدّة إلاّ الخلود في النار ولكن ذكروا أن الحُقُب الواحد سبعون ألف سنة, كلّ يوم من تلك الأيام السبعين ألفا, كألف سنة مما تَعُدّون.
27877ـ حدثنا عمرو بن عبد الحميد الاَمُلِيّ, قال: حدثنا أبو أُسامة, عن هشام, عن الحسن, في قوله: لابِثِينَ فِيها أحْقابا قال: أما الأحقاب, فلا يَدرِي أحد ما هي, وأما الحُقُب الواحد: فسبعون ألف سنة, كلّ يوم كألف سنة.
ورُوي عن خالد بن معدان في هذه الاَية, أنها في أهل القِبلة. ذكر من قال ذلك:
27878ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عامر بن جشب, عن خالد بن معدان في قوله: لابِثِينَ فِيها أحْقابا, وقوله: إلا ما شاءَ رَبّكَ إنهما في أهل التوحيد من أهل القبلة.
فإن قال قائل: فما أنت قائل في هذا الحديث؟ قيل: الذي قاله قتادة عن الربيع بن أنس في ذلك أصحّ.
فإن قال: فما للكفار عند الله عذابٌ إلاّ أحقابا قيل: إن الربيع وقتادة قد قالا: إن هذه الأحقاب لا انقضاء لها ولا انقطاع. وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك: لابثين فيها أحقابا, في هذا النوع من العذاب, هو أنهم: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْدا وَلا شَرَابا إلاّ حَمِيما وغَسّاقا فإذا انقضت تلك الأحقاب, صار لهم من العذاب أنواع غير ذلك, كما قال جلّ ثناؤه في كتابه: وَإنّ للطّاغِينَ لَشَرّ مآبٍ جَهَنّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ المِهادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَميمٌ وغَسّاقٌ وآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أزْوَاجٌ وهذا القول عندي أشبه بمعنى الاَية. وقد رُوي عن مقاتل بن حيان في ذلك ما:
27879ـ حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقيّ, قال: حدثنا عمرو بن أبي سَلَمة, قال: سألت أبا معاذ الخراسانيّ, عن قول الله: لابِثِينَ فِيها أحْقابا فأخبرنا عن مقاتل بن حيَان, قال: منسوخة, نسختها: فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إلاّ عَذَابا ولا معنى لهذا القول, لأن قوله: لابِثِينَ فِيها أحْقابا خبر, والأخبار لا يكون فيها نسخ, وإنما النسخ يكون في الأمر والنهي.
وقوله: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْدا وَلا شَرَابا يقول: لا يَطْعَمون فيها بردا يُبَرّد حرّ السعير عنهم, إلاّ الغساق, ولا شرابا يَرْوِيهم من شدّة العطش الذي بهم, إلاّ الحميم. وقد زعم بعض أهل العلم بكلام العرب أن البرد في هذا الموضع النوم, وأن معنى الكلام: لا يذوقون فيها نوما ولا شرابا, واستشهد لقيله ذلك بقول الكنديّ:
بَرَدَتْ مَرَاشِفُها عَليّ فَصَدّنيعَنْها وَعَنْ قُبُلاتِها البَرْدُ
يعني بالبرد: النّعاس والنوم إن كان يُبرد غليلَ العَطَش, فقيل له من أجل ذلك البرد, فليس هو باسمه المعروف, وتأويل كتاب الله على الأغلب من معروف كلام العرب, دون غيره. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
27880ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن أبي جعفر, عن الربيع لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْدا وَلا شَرَابا إلاّ حَمِيما وَغَسّاقا فاستثنى من الشراب الحميم, ومن البَرْد: الغَسّاق.
وقوله: إلاّ حَمِيما وغَسّاقا يقول تعالى ذكره: لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلاّ حميما قد أغلي حتى انتهى حرّه, فهو كالمُهْل يَشْوِي الوجوه, ولا برد إلاّ غَسّاقا.
واختلف أهل التأويل في معنى الغَسّاق, فقال بعضهم: هو ما سال من صديد أهل جهنم. ذكر من قال ذلك:
27881ـ حدثنا أبو كريب ومحمد بن المثنى, قالا: حدثنا ابن إدريس, عن أبيه, عن عطية بن سعد, في قوله: حَمِيما وَغَسّاقا قال: هو الذي يَسيل من جلودهم.
27882ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا المعتمر, عن أبيه, قال: حدثنا أبو عمرو, قال: زعم عكرِمة أنه حدثهم في قوله: وَغَسّاقا قال: ما يخرج من أبصارهم من القيح والدم.
27883ـ حدثنا ابن بشار وابن المثنى, قالا: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان, عن منصور عن إبراهيم وأبي رَزِين إلاّ حَمِيما وَغَسّاقا قالا: غُسالة أهل النار لفظ ابن بشار وأما ابن المثنى فقال في حديثه: ما يسيل من صديدهم.
وحدثنا ابن بشار مرّة أخرى عن عبد الرحمن, فقال كما قال ابن المثنى.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن منصور, عن أبي رَزين وَغَسّاقا قال: ما يَسِيل من صديدهم.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن منصور وأبي رَزِين, عن إبراهيم مثله.
27884ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: غَسّاقا كنا نحدّث أن الغَسّاق: ما يسيل من بين جلده ولحمه.
27885ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا الضحاك بن مخلد, عن سفيان, أنه قال: بلغني أنه ما يسيل من دموعهم.
27886ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن منصور, عن إبراهيم وَغَسّاقا قال: ما يسيل من صديدهم من البرد, قال سفيان وقال غيره: الدموع.
27887ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: إلاّ حَمِيما وغَسّاقا قال: الحميم: دموع أعينهم في النار, يجتمع في خنادق النار فيُسْقَونه, والغساق: الصديد الذي يخرج من جلودهم, مما تصهرهم النار في حياض يجتمع فيها فيسقونه.
27888ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيم إلاّ حَمِيما وَغَسّاقا قال: الغساق: ما يقطر من جلودهم, وما يسيل من نتنهم.
وقال آخرون: الغساق: الزمهرير. ذكر من قال ذلك:
27889ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس إلاّ حَمِيما وَغَسّاقا يقول: الزمهرير.
27890ـ حدثنا أبو كريب وأبو السائب وابن المثنى, قالوا: حدثنا ابن إدريس, قال: سمعت ليثا, عن مجاهد, في قوله: إلاّ حَمِيما وَغَسّاقا قال: الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده.
قال: ثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن ليث, عن مجاهد إلاّ حَمِيما وَغَسّاقا قال: الذي لا يستطيعونه من برده.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن ليث, عن مجاهد: الغساق: الذي لا يستطاع من برده.
27891ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن أبي جعفر, عن الربيع قال: الغساق: الزمهرير.
27892ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن أبي جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية, قال: الغساق: الزمهرير.
وقال آخرون: هو المُنْتِن, وهو بالطّخارية. ذكر من قال ذلك:
27893ـ حُدثت عن المسيب بن شريك, عن صالح بن حيان, عن عبد الله بن بُرَيدة, قال: الغساق: بالطّخارية: هو المنتن.
والغساق عندي: هو الفعال, من قولهم: غَسَقت عين فلان: إذا سالت دموعها, وغَسَق الجرح: إذا سال صديده, ومنه قول الله: وَمِنْ شَرّ غاسِقٍ إذَا وَقَبَ يعني بالغاسق: الليل إذا لَبِس الأشياء وغطاها وإنما أريد بذلك هجومه على الأشياء, هجوم السيل السائل فإذا كان الغسّاق هو ما وصفت من الشيء السائل, فالواجب أن يقال: الذي وعد الله هؤلاء القوم, وأخبر أنهم يذوقونه في الاَخرة من الشراب, هو السائل من الزمهرير في جهنم, الجامع مع شدّة برده النتن, كما:
27894ـ حدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا يعمر بن بشر, قال: حدثنا ابن المبارك, قال: حدثنا رشدين بن سعد, قال: حدثنا عمرو بن الحرث, عن أبي السمح, عن أبي الهيثم, عن أبي سعيد الخُدْرِيّ, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, قال: «لَوْ أن دَلْوا مِنْ غَسّاقٍ يُهْرَاقُ إلى الدّنْيا, لأَنْتَنَ أهْلَ الدّنْيا».
27895ـ حُدثت عن محمد بن حرب, قال: حدثنا ابن لَهِيعة, عن أبي قبيل, عن أبي مالك, عن عبد الله بن عمرو, أنه قال: «أتدرون أيّ شيء الغسّاق؟ قالوا: الله أعلم, قال: «هو القيح الغليظ, لو أن قطرة منه تهراق بالمغرب, لأنتن أهل المشرق, ولو تهراق بالمشرق, لأنتن أهل المغرب».
فإن قال قائل: فإنك قد قلت: إن الغَسّاق: هو الزمهرير, والزمهرير: هو غاية البرد, فكيف يكون الزمهرير سائلاً؟ قيل: إن البرد الذي لا يُستطاع ولا يُطاق, يكون في صفة السائل من أجساد القوم من القيح والصديد.

الآية : 26-30
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{جَزَآءً وِفَاقاً * إِنّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذّاباً * وَكُلّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً * فَذُوقُواْ فَلَن نّزِيدَكُمْ إِلاّ عَذَاباً }.
يقول تعالى ذكره: هذا العقاب الذي عُوقِب به هؤلاء الكفار في الاَخرة, فعلَه بهم ربهم جزاء, يعني: ثوابا لهم على أفعالهم وأقوالهم الرديئة التي كانوا يعملونها في الدنيا, وهو مصدر من قول القائل: وافق هذا العقاب هذا العلم وِفاقا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
27896ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: جَزَاءً وِفاقا يقول: وافق أعمالهم.
27897ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: جَزَاءً وِفاقا وافق الجزاء أعمال القوم أعمال السوء.
27898ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن أبي جعفر, عن الربيع جَزَاءً وِفاقا قال: بحسب أعمالهم.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, قال: حدثنا حكام, عن أبي جعفر, عن الربيع, في قوله: جَزَاءً وِفاقا قال: ثواب وافَق أعمالهم.
27899ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: جَزَاءً وِفاقا قال: عملوا شرّا, فجزوا شرّا, وعملوا حسنا, فجزوا حسنا, ثم قرأ قول الله: ثُمّ كانَ عاقِبَةَ الّذِينَ أساءُوا السّوأى.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: جَزَاءً وِفاقا قال: جزاء وافق أعمال القوم.
27900ـ حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحرث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد جَزَاءً وِفاقا قال: وافق الجزاء العمل.
وقوله: إنّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِسابا يقول تعالى ذكره: إن هؤلاء الكفار كانوا في الدنيا لا يخافون محاسبة الله إياهم في الاَخرة على نعمه عليهم, وإحسانه إليهم, وسوء شكرهم له على ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
27901ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحرث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: لا يَرْجُونَ حِسابا قال: لا يبالون فيصدّقون بالغيب.
27902ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِسابا أي لا يخافون حسابا.
27903ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: إنّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِسابا قال: لا يؤمنون بالبعث ولا بالحساب, وكيف يرجو الحساب من لا يُوقن أنه يحيا, ولا يوقن بالبعث وقرأ قول الله: بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الأوّلُونَ قالُوا أئِذَا مِتْنا وكُنّا تُرَابا... إلى قوله أساطِيرُ الأوّلِينَ, وقرأ: هَلْ نَدُلّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبّئُكُمْ إذَا مُزّقْتُمْ كُلّ مُمَزّق... إلى قوله جَدِيدٍ فقال بعضهم لبعض: ماله أفْترَى عَلى اللّهِ كَذِبا أمْ بِه جِنّةٌ الرجل مجنون حين يخبرنا بهذا.
وقوله: وكَذّبُوا بآياتِنا كِذّابا يقول تعالى ذكره: وكذّب هؤلاء الكفار بحُجَجِنا وأدلتنا تكذيبا. وقيل: كِذّابا, ولم يقل تكذيبا, تصديرا على فعله.
وكان بعض نحويّي البصرة يقول: قيل ذلك لأن فعل منه على أربعة, فأراد أن يجعله مثل باب أفعلت, ومصدر أفعلت إفعالاً, فقال: كذّابا, فجعله على عدد مصدره, قال: وعلى هذا القياس تقول: قاتل قتالاً, قال: وهو من كلام العرب. وقال بعض نحويّي الكوفة: هذه لغة يمانية فصيحة, يقولون: كذّبت به كذّابا, وخَرّقت القميص خِرّاقا, وكلّ فَعّلْت, فمصدرها فِعّال بلغتهم مشدّدة. قال: وقال لي أعرابي مرّة على المروة يستفتيني: ألحلق أحبّ إليك أم القِصّار؟ قال: وأنشدني بعض بني كلاب:
لَقَدْ طالَ ما ثَبّطَتْنِي عَنْ صَحَابَتِيوَعَنْ حِوَجٍ قِضّاؤُها مِنْ شَفائِيَا
وأجمعت القرّاء على تشديد الذال من الكِذّاب في هذا الموضع. وكان الكسائي خاصة يخفّف الثانية, وذلك في قوله: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوا وَلا كِذّابا ويقول: وهو من قولهم: كاذبته كِذّابا ومكاذبة, ويشدّد هذه, ويقول قوله كَذّبوا يقيد الكِذّاب بالمصدر.
وقوله: وكُلّ شَيْءٍ أحْصَيْناه كِتابا يقول تعالى ذكره: وكلّ شيء أحصيناه فكتبناه كتابا, كتبنا عدده ومبلغه وقدره, فلا يغرُب عنا علم شيء منه ونصب كتابا, لأن في قوله: أحْصَيْناهُ مصدر أثبتناه وكتبناه, كأنه قيل: وكلّ شيء كتبناه كتابا.
وقوله: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إلاّ عَذَابا يقول جلّ ثناؤه: يقال هؤلاء الكفار في جهنم إذا شربوا الحميم والغَسّاق: ذوقوا أيها القوم من عذاب الله الذي كنتم به في الدنيا تكذّبون, فلن نزيدكم إلاّ عذابا على العذاب الذي أنتم فيه لا تخفيفا منه, ولا ترفّها. وقد:
27904ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبي عديّ, عن سعيد, عن قتادة, عن أبي أيوب الأزديّ, عن عبد الله بن عمرو, قال: لم تنزل على أهل النار آية أشدّ من هذه: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إلاّ عَذَابا قال: فهم في مزيد من العذاب أبدا.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فَذُوقُوا فلَنْ نَزِيدَكُمْ إلاّ عَذَابا: ذُكر لنا أن عبد الله بن عمرو كان يقول: ما نزلت على أهل النار آية أشدّ منها فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُم إلاّ عَذابا فهم في مزيد من الله أبدا