الصحابي الذي صلى خلفه الرسول في غزوة تبوك

الصحابي الذي صلى خلفه الرسول في غزوة تبوك

جاء من حديث المغيرة ابن شعبة في غزوة تبوك قال: تخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخلفت معه ..... ثم ركب وركبت فانتهينا إلى القوم، وقد قاموا في الصلاة، يصلي بهم عبد الرحمن بن عوف وقد ركع بهم ركعة، فلما أحس بالنبي صلى الله عليه وسلم ذهب يتأخر، فأومأ إليه، فصلى بهم، فلما سلم قام النبي صلى الله عليه وسلم وقمت، فركعنا الركعة التي سبقتنا». صحيح مسلم 

وفي رواية لأبي داوود: فأقبلنا نسير حتى نجد الناس في الصلاة قد قدموا عبد الرحمن بن عوف، فصلى بهم حين كان وقت الصلاة ووجدنا عبد الرحمن وقد ركع بهم ركعة من صلاة الفجر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصف مع المسلمين فصلى وراء عبد الرحمن بن عوف الركعة الثانية، ثم سلم عبد الرحمن، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته ففزع المسلمون، فأكثروا التسبيح لأنهم سبقوا النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لهم: «قد أصبتم - أو قد أحسنتم »

فضل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه

من فضيلة عبد الرحمن بن عوف أن اختاره الموجودون في تلك الغزوة بأن يتقدمهم ويؤمهم في الصلاة مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخطر في بالي أن غزوة تبوك حضرها أبو بكر و عمر و عثمان و علي ، وهم الخلفاء الراشدون أو المرشحون للخلافة، و ابن عوف لم يكن منهم، نعم هو من المبشرين بالجنة ولكن لماذا قدموه وفي القوم هؤلاء؟ مع أن أبا بكر قال فيه صلى الله عليه وسلم: ( لو وزن أبو بكر في كفة والأمة في كفة لرجح عليها أبو بكر ) وفضيلة أبي بكر وصلته برسول الله أمر مفروغ منه: ( هل أنتم تاركوا لي صاحبي ) وقال تعالى: { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [التوبة:40].
يمكن أن يقال: لكل مقام مقال، فالخلافة وإدارة الأمة ومراعاة شئونها تصلح لـ أبي بكر ، الصلاة من حيث هي أداء، لقد عرف عن أبي بكر كما جاء من حديث عائشة : ( مروا أبا بكر فليصل بالناس.
قالت: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف، إذا قرأ لا يتمالك نفسه ) أي أنه يبكي، وإذا قدمنا شخصاً يصلي بنا فلسنا في حاجة إلى أن نسمع بكاءه، نحن في حاجة إلى أن نسمع القراءة، فالصلاة مبناها على القراءة وليس على البكاء.
إذاً: يكون ابن عوف مناسباً لإمامة الصلاة في هذا الوقت، ويمكن أن يروا بأنه أولى من غيره.
ثم مجيء النبي صلى الله عليه وسلم، ومحاولة المغيرة أن ينبه الإمام ليتراجع، يقولون: إن الإمام الراتب إذا تغيب وقدم القوم رجلاً يصلي بهم، فحضر الإمام الراتب، فهو مخير بين أن يتقدم ويرد من قدموه، ويصبح بعد أن كان إماماً مأموماً، حتى ولو كان قد صلى ركعتين أو ركعة من الصلاة، وإما أن يترك حقه في الإمامة ويقف مع المصلين مأموماً كبقية الناس، وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم له حق الإمامة على الأمة عامة، فترك هذا الحق وصلى خلف الإمام الذي اختاروه لأنفسهم مسبوقاً مأموماً ثم أتم صلاته.

مراعاة اختيار أفضل الموجودين للإمامة

ينبغي أيضاً اختيار الإمام بأن يكون من خيرة الموجودين، وعندكم حديث مكتوب على المحراب في مثلث من المثلثات الموجودة على جانبي المحراب ( تخيروا من يؤمكم في الصلاة فإن أئمتكم وافدوكم إلى ربكم ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فالإمام وافد القوم إلى الله؛ لأننا نقدمه بين أيدينا ليناجي الله سبحانه وتعالى، فهو مقدم منا إلى الله كالوافد، أي: الذي نوفده ونرسله إلى بعض الملوك أو الأمراء ليسأل حاجة الأمة أو حاجة القوم، فكذلك الإمام وافد المؤمنين إلى الله سبحانه وتعالى.

صحة صلاة الفاضل خلف المفضول


ثم كونه صلى الله عليه وسلم -وهو سيد الرسل ونبي الأمة- يصلي خلف فرد من أفراد الأمة، يؤخذ منه صحة قالوا: تصح صلاة الفاضل خلف المفضول إذا كان المفضول أهلاً للصلاة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة خلف عبد الرحمن بن عوف في هذه الحالة، ثم لما سلم الإمام نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتم ما كان باقياً عليه، وهذا تأييد لما جاء عن معاذ رضي الله عنه.
وذلك أنهم إذا كانوا في الصلاة وجاء المسبوق سأل من في نهاية الصف: كم صليتم؟ فيشير إليه بيده، ركعة أو ركعتين، فيصلي وحده وهو قائم في الصف ما فاته من الصلاة، ثم يتابع الإمام فيما بقي، فإذا سلم الإمام سلم؛ لأنه أتى بما فاته ثم تابع الإمام فيما تبقى، فيكون قد أتم صلاته.
فقال معاذ : لأن آتي فأجد النبي صلى الله عليه وسلم على حالة إلا وافقته فيها، فجاء مسبوقاً والنبي صلى الله عليه وسلم قد صلى من صلاته شيئاً، فتابعه على ما هو عليه، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قام معاذ وأتى بما كان قد فاته، وقد عرف من نفسه -دون أن يسأل أحداً- ما فاته من الصلاة، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: ( إن معاذاً قد سن لكم في الصلاة سنة فخذوها )، وأصبح من بعد تلك الحادثة أن المسبوق يأتي فيدخل مع الإمام على ما هو عليه، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم! دخل مع الإمام على ما هو عليه، ثم بعد أن سلم الإمام قام وأتم ما فاته من الصلاة، وهي الركعة الأولى؛ لأن الصلاة كانت صلاة الصبح.
قوله: (فزعوا)، أي: لأن هذا أمر عاطفي كما أشرنا، وكانوا يحبون أن تكون الإمامة لرسول الله، وفزعوا أن يكون الرسول مأموماً لواحد منهم.

استحسان فعل المحسن والثناء عليه

قوله: (فلما رأى فزعهم).
هذه نواح نفسية أدركها النبي صلى الله عليه وسلم في نفوس القوم، فأراد أن يذهب عنهم دواعي الفزع فقال: )أحسنتم) أي: أتيتم عملاً محسنين فيه.
إذاً: ليس هناك موجب لأن تفزعوا؛ لأنكم ما أتيتم بشيء يوجب الفزع، وهنا يقولون: على ولي الأمر أو المسئول أن يستحسن ما فُعل تحت أمره أو تحت رئاسته من فعل حسن، فيثنى على المحسن كما يعاتب المسيء؛ لأن في الثناء على المحسن تشجيع له على إحسانه، وهكذا كان قوله صلى الله عليه وسلم: )أحسنتم).
ومن هنا قال الشافعي رحمه الله ومن وافقه: إن الصلاة في أول الوقت أفضل من تأخيرها؛ لأن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أرادوا الصلاة في أول وقتها، ولما لم يحضر الإمام الأحق بالإمامة قدموا غيره ليؤدوا الصلاة في وقت الفضيلة.

نجاح الرسالات السماوية في تربية الأمم

ثم بعد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم تطييباً أو إخباراً بأمر مستقر جديد: (ما قبض الله روح نبي إلا وقد صلى خلف رجل من أمته).
هذا اللفظ على وجازته واختصاره يعطينا معنى عظيماً جداً، وذلك: أن أي نبي بعث في أمة إنما بعث فيها وهي على جهالة، وجاءهم الله بما أوحى به إليه ليخرجهم من تلك الجهالة إلى المعرفة، ولينشئهم ويربيهم ويعلمهم إلى أن يصلحوا في أنفسهم، ويكونوا صالحين لإصلاح غيرهم.
وهكذا هنا: بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمة أمية، وكلنا يعلم ما كانوا فيه من عبادة الأوثان، وجاهلية جهلاء، كما ذكر جعفر رضي الله تعالى عنه للنجاشي : كنا يأكل قوينا ضعيفنا، ونأكل الميتة، وكنا نخفر الذمم وكنا .
وكنا .
إلخ، فبعث الله لنا رجلاً منا نعرف نسبه ونشأته، فأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وحقوق الجوار، وصلة الرحم، وأن نعبد الله وحده لا نشرك به .
إلخ.
فهنا كان العرب على تلك الحالة التي يعرفها الجميع، وجاءت الرسالة المحمدية بما يعرفه أيضاً الجميع، وأخرج الله به الأمة من الجهالة إلى المعرفة، ومن الضلال إلى الهداية، فكأنه يشير إلى أن الرسالة قد أدت مفعولها وأثمر غرسها، وأصبحت الأمة الأمية والأعراب في البادية قادة في أنفسهم، وصالحين لأن يؤم بعضهم بعضاً، وبالتالي كل واحد منهم أصبح صالحاً لأن يكون إماماً لغيرهم من الأمم والجماعات، وهذا بعد الهجرة بتسع سنوات؛ لأن تبوك كانت في السنة التاسعة، معناه أن الإسلام قد أعطى ثماراً، وأن الأمة التي تبعت الإسلام ودانت به أصبحت مستكملة ثقافياً وفكرياً وقيادياً، وأنها قد توفر فيها كل ما تتطلبه الأمة من عناصر الحضارة والتقدم.
ويدل على ذلك أن الواحد منهم بعد أن كان يعبد الصنم، ويفعل القبائح، أصبح الآن صالحاً لأن يؤم العالم وقد أمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل بعدها بسنة واحدة وهي السنة العاشرة في حجة الوداع: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا } [المائدة:3] فقوله صلى الله عليه وسلم: ( ما قبض الله روح نبي إلا وقد صلى خلف رجل من أمته ) دليل على أن الرسالات السماوية ناجحة في تربية الأمم، سواء كثر الأتباع أو قلوا؛ فإن نظام الوحي ومنهجه هو أن يوجد الإنسان الكامل الفاضل الذي يصلح لإمامة الدنيا بأسرها.
والله تعالى أعلم.