تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 187 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 187

187 : تفسير الصفحة رقم 187 من القرآن الكريم

سورة التوبة
** بَرَآءَةٌ مّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الّذِينَ عَاهَدْتُمْ مّنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُواْ فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوَاْ أَنّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ
هذه السورة الكريمة من أواخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال البخاري: حدثنا أبو الوليد, حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول آخر آية نزلت {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} وآخر سورة نزلت براءة, وإنما لم يبسمل في أولها لأن الصحابة لم يكتبوا البسملة في أولها في المصحف الإمام, بل اقتدوا في ذلك بأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه, كما قال الترمذي: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر وابن أبي عدي وسهيل بن يوسف قالوا: حدثنا عوف بن أبي جميلة, أخبرني يزيد الفارسي, أخبرني ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين وقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال ما حملكم على ذلك ؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هذه الاَية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا, وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن, وكانت قصتها شبيهة بقصتها وحسبت أنها منها, وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال, وكذا رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه, والحاكم في مستدركه من طرق أخر عن عوف الأعرابي به, وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه, وأول هذه السورة الكريمة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك وهم بالحج, ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك وأنهم يطوفون بالبيت عراة, فكره مخالطتهم وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميراً على الحج تلك السنة ليقيم للناس مناسكهم ويعلم المشركين أن لا يحجوا بعد عامهم هذا, وأن ينادي في الناس {براءة من الله ورسوله} فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب ليكون مبلغاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونه عصبة له كما سيأتي بيانه.
فقوله تعالى: {براءة من الله ورسوله} أي هذه براءة أي تبرؤ من الله ورسوله {إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} اختلف المفسرون ههنا اختلافاً كثيراً, فقال قائلون: هذه الاَية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة أو من له عهد دون أربعة أشهر فيكمل له أربعة أشهر, فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كان, لقوله تعالى: {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} الاَية, ولما سيأتي في الحديث. ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته وهذا أحسن الأقوال وأقواها, وقد اختاره ابن جرير رحمه الله, وروي عن الكلبي ومحمد بن كعب القرظي وغير واحد. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} الاَية, قال: حد الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر يسيحون في الأرض حيث شاءوا وأجل أجل من ليس له عهد انسلاخ الأشهر الحرم من يوم النحر إلى سلخ المحرم فذلك خمسون ليلة, فأمر الله نبيه إذا انسلخ الأشهر الحُرم أن يضع السيف فيمن لم يكن بينه وبينه عهد بقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام, وأمر بمن كان له عهد إذا انسلخ أربعة أشهر من يوم النحر إلى عشر خلون من ربيع الاَخر أن يضع فيهم السيف أيضاً حتى يدخلوا في الإسلام.
وقال أبو معشر المدني: حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميراً على الموسم سنة تسع, وبعث علي بن أبي طالب بثلاثين آية أو أربعين آية من براءة فقرأها على الناس, يؤجل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض فقرأها عليهم يوم عرفة أجلهم عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشراً من ربيع الاَخر, وقرأها عليهم في منازلهم وقال: لا يحجن بعد عامنا هذا مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان. وقال ابن أبي نجيح, عن مجاهد {براءة من الله ورسوله} إلى أهل العهد خزاعة ومدلج ومن كان له عهد أو غيرهم, فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج ثم قال: «إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك» فأرسل أبا بكر وعلياً رضي الله عنهما فطافا بالناس في ذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها وبالمواسم كلها, فآذنوا أصحاب العهد بأن يؤمّنوا أربعة أشهر فهي الأشهر المتواليات عشرون من ذي الحجة إلى عشر يخلون من ربيع الاَخر ثم لا عهد لهم, وآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا, وهكذا روي عن السدي وقتادة وقال الزهري: كان ابتداء التأجيل من شوال وآخره سلخ المحرم, وهذا القول غريب وكيف يحاسبون بمدة لم يبلغهم حكمها وإنما ظهر لهم أمرها يوم النحر حين نادى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ولهذا قال تعالى:)

** وَأَذَانٌ مّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الأكْبَرِ أَنّ اللّهَ بَرِيَءٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ وَإِن تَوَلّيْتُمْ فَاعْلَمُوَاْ أَنّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشّرِ الّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
يقول تعالى وإعلام {من الله ورسوله} وتقدم وإنذار إلى الناس {يوم الحج الأكبر} وهو يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك وأظهرها وأكثرها جمعاً {أن الله بريء من المشركين ورسوله} أي بريء منهم أيضاً ثم دعاهم إلى التوبة إليه, فقال {فإن تبتم} أي مما أنتم فيه من الشرك والضلال {فهو خير لكم, وإن توليتم} أي استمررتم على ما أنتم عليه {فاعلموا أنكم غير معجزي الله} بل هو قادر عليكم وأنتم في قبضته وتحت قهره ومشيئته, {وبشر الذين كفروا بعذاب أليم} أي في الدنيا بالخزي والنكال وفي الاَخرة بالمقامع والأغلال, قال البخاري رحمه الله: حدثنا عبد الله بن يوسف, حدثنا الليث, حدثني عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذنين الذين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. قال حميد: ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة, قال أبو هريرة فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة, وأن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان, ورواه البخاري أيضاً: حدثنا أبو اليمان, أخبرناشعيب عن الزهري, أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان, ويوم الحج الأكبر يوم النحر, وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس الحج الأصغر, فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرك, هذا لفظ البخاري في كتاب الجهاد. وقال عبد الرزاق: عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله: {براءة من الله ورسوله} قال: لما كان النبي صلى الله عليه وسلم زمن حنين اعتمر من الجعرانة ثم أمّر أبا بكر على تلك الحجة, قال معمر: قال الزهري: وكان أبو هريرة يحدث أن أبا بكر أمر أبا هريرة أن يؤذن ببراءة في حجة أبي بكر, قال أبو هريرة: ثم أتبعنا النبي صلى الله عليه وسلم علياً وأمره أن يؤذن ببراءة وأبو بكر على الموسم كما هو أو قال على هيئته. وهذا السياق فيه غرابة من جهة أن أمير الحج كان سنة عمرة الجعرانة إنما هو عتاب بن أسيد فأما أبو بكر إنما كان أميراً سنة تسع.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن مغيرة عن الشعبي عن محرّر بن أبي هريرة عن أبيه قال: كنت مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ببراءة فقال: ما كنتم تنادون ؟. قال: كنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة, ولا يطوف بالبيت عريان, ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فإن أجله أو مدته إلى أربعة أشهر, فإذا مضت الأربعة الأشهر فإن الله بريء من المشركين ورسوله, ولا يحج هذا البيت بعد عامنا هذا مشرك, قال: فكنت أنادي حتى صحل صوتي, وقال الشعبي: حدثني محرّر بن أبي هريرة عن أبيه قال: كنت مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ينادي فكان إذا صحل ناديت فقلت: بأي شيء كنتم تنادون ؟ قال بأربع, لا يطوف بالبيت عريان, ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فعهده إلى مدته, ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة, ولا يحج بعد عامنا هذا مشرك. رواه ابن جرير من غير وجه عن الشعبي, ورواه شعبة عن مغيرة عن الشعبي به, إلا أنه قال: ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى أربعة أشهر وذكر تمام الحديث. قال ابن جرير: وأخشى أن يكون وهماً من بعض نقلته لأن الأخبار متظاهرة في الأجل بخلافه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا حماد عن سماك عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه ببراءة مع أبي بكر فلما بلغ ذا الحليفة قال: «لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي» فبعث بها مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه, ورواه الترمذي في التفسير: عن بندار عن عفان وعبد الصمد كلاهما عن حماد بن سلمة به, ثم قال: حسن غريب من حديث أنس رضي الله عنه, وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا محمد بن سليمان, ـ لُوَيْن ـ حدثنا محمد بن جابر عن سماك عن حنش عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلى الله عليه وسلم دعا النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة ثم دعاني فقال: «أدرك أبا بكر فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب إلى أهل مكة فاقرأه عليهم» فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه ورجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, نزل فيّ شيء ؟ فقال «لا ولكن جبريل جاءني فقال: لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» هذا إسناد فيه ضعف, وليس المراد أن أبا بكر رضي الله عنه رجع من فوره بل بعد قضائه للمناسك التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء مبيناً في الرواية الأخرى. وقال عبد الله أيضاً: حدثني أبو بكر, حدثنا عمرو بن حماد عن أسباط بن نصر عن سماك عن حنش عن علي رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه ببراءة قال: يا نبي الله إني لست باللسن ولا بالخطيب قال: «لا بد لي أن أذهب بها أنا أو تذهب بها أنت» قال: فإن كان ولا بد فسأذهب أنا, قال: «انطلق فإن الله يثبت لسانك ويهدي قلبك» قال: ثم وضع يده على فيه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع رجل من همدان, سألنا علياً بأي شيء بعثت ؟ يعني يوم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر في الحجة, قال: بعثت بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة, ولا يطوف بالبيت عريان, ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته, ولا يحج المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا, ورواه الترمذي عن قلابة عن سفيان بن عيينة وقال: حسن صحيح كذا قال, ورواه شعبة عن أبي إسحاق فقال: زيد بن يثيع وهم فيه, ورواه الثوري عن أبي إسحاق عن بعض أصحابه عن علي رضي الله عنه. وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا أبو أسامة عن زكريا عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع عن علي قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت براءة بأربع: أن لا يطوف بالبيت عريان, ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامهم هذا, ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته, ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة, ثم رواه ابن جرير عن محمد بن عبد الأعلى عن ابن ثور عن معمر عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال: أمرت بأربع فذكره, وقال إسرائيل عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيغ قال: نزلت براءة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ثم أرسل علياً فأخذها, فلما رجع أبو بكر قال: نزل فيّ شيء ؟ قال: «لا ولكن أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل بيتي» فانطلق إلى أهل مكة فقام فيهم بأربع لا يدخل مكة مشرك بعد عامه هذا, ولا يطوف بالبيت عريان, ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة, ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته, وقال محمد بن إسحاق عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي قال: لما نزلت براءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بعث أبا بكر ليقيم الحج للناس فقيل يا رسول الله: لو بعثت إلى أبي بكر ؟ فقال: «لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي» ثم دعا علياً فقال «اذهب بهذه القصة من سورة براءة وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى, أنه لا يدخل الجنة كافر, ولا يحج بعد العام مشرك, ولا يطوف بالبيت عريان, ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو له إلى مدته» فخرج علي رضي الله عنه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر في الطريق فلما رآه أبو بكر قال: أمير أو مأمور ؟ فقال بل مأمور, ثم مضيا فأقام أبو بكر للناس الحج إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذن في الناس بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها)الناس, إنه لا يدخل الجنة كافر, ولا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان, ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إلى مدته, فلم يحج بعد ذلك العام مشرك, ولم يطف بالبيت عريان, ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان هذا من براءة فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العام وأهل المدة إلى الأجل المسمى.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم, أخبرنا أبو زرعة وهب الله بن راشد, أخبرنا حيوة بن شريح, أخبرنا ابن صخر أنه سمع أبا معاوية البجلي من أهل الكوفة يقول: سمعت أبا الصهباء البكري وهو يقول: سألت علياً عن يوم الحج الأكبر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر بن أبي قحافة يقيم للناس الحج وبعثني معه بأربعين آية من براءة حتى أتى عرفة فخطب الناس يوم عرفة, فلما قضى خطبته التفت إلي فقال: قم يا علي فأد رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من براءة, ثم صدرنا فأتينا منى فرميت الجمرة ونحرت البدنة ثم حلقت رأسي وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا كلهم حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة فطفت أتتبع بها الفساطيط أقرأها عليهم فمن ثم أخال حسبتم أنه يوم النحر ألا وهو يوم عرفة, وقال عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحاق سألت أبا جحيفة عن يوم الحج الأكبر قال: يوم عرفة, فقلت: أمن عندك أم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال: كل في ذلك, وقال عبد الرزاق أيضاً: عن ابن جريج عن عطاء قال: يوم الحج الأكبر يوم عرفة. وقال عمر بن الوليد الشّنّي: حدثنا شهاب بن عباد البصري عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: هذا يوم عرفة هذا يوم الحج الأكبر فلا يصومنه أحد. قال: فحججت بعد أبي فأتيت المدينة فسألت عن أفضل أهلها فقالوا: سعيد بن المسيب فأتيته فقلت: إني سألت عن أفضل أهل المدينة فقالوا سعيد بن المسيب فأخبرني عن صوم يوم عرفة, فقال: أخبرك عمن هو أفضل مني مائة ضعف عمر أو ابن عمر, كان ينهى عن صومه ويقول هو يوم الحج الأكبر, رواه ابن جرير وابن أبي حاتم, وهكذا روي عن ابن عباس وعبد الله بن الزبير ومجاهد وعكرمة وطاووس أنهم قالوا: يوم عرفة هو يوم الحج الأكبر.
وقد ورد فيه حديث مرسل رواه ابن جريج, أخبرت عن محمد بن قيس عن ابن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم عرفة فقال: «هذا يوم الحج الأكبر» وروي من وجه آخر: عن ابن جريج عن محمد بن قيس عن المسور بن مخرمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خطبهم بعرفات فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد فإن هذا يوم الحج الأكبر» والقول الثاني أنه يوم النحر قال هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن علي رضي الله عنه قال: يوم الحج الأكبر يوم النحر, وقال إسحاق السبيعي عن الحارث الأعور: سألت علياً رضي الله عنه عن يوم الحج الأكبر فقال: هو يوم النحر, وقال شعبة عن الحكم سمعت يحيى بن الجزار يحدث عن علي رضي الله عنه أنه خرج يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة فجاء رجل فأخذ بلجام دابته فسأله عن يوم الحج الأكبر فقال هو يومك هذا خل سبيلها, وقال عبد الرزاق: عن سفيان عن شعبة عن عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن أبي أوفى أنه قال: يوم الحج الأكبر يوم النحر, وروى شعبة وغيره عن عبد الملك بن عمير به نحوه. وهكذا رواه هشيم وغيره عن الشيباني عن عبد الله بن أبي أوفى. وقال الأعمش عن عبد الله بن سنان قال: خطبنا المغيرة بن شعبة يوم الأضحى على بعير فقال: هذا يوم الأضحى وهذا يوم النحر وهذا يوم الحج الأكبر, وقال حماد بن سلمة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: الحج الأكبر يوم النحر, وكذا روي عن أبي جحيفة وسعيد بن جبير وعبد الله بن شداد بن الهاد ونافع بن جبير بن مطعم والشعبي وإبراهيم النخعي ومجاهد وعكرمة وأبي جعفر الباقر والزهري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا: يوم الحج الأكبر هو يوم النحر واختاره ابن جرير, وقد تقدم الحديث عن أبي هريرة في صحيح البخاري أن أبا بكر بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى, وقد ورد في ذلك أحاديث أخر كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثني سهل بن محمد الحساني, حدثنا أبو جابر الحرمي, حدثنا هشام بن الغازي الجرشي عن نافع عن ابن عمر قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال: «هذا يوم الحج الأكبر» وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه من حديث أبي جابر واسمه محمد بن عبد الملك به, ورواه ابن مردويه أيضاً من حديث الوليد بن مسلم عن هشام بن الغازي به, ثم رواه من حديث سعيد بن عبد العزيز عن نافع به, وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن مرة الهمداني عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة حمراء مخضرمة فقال: «أتدرون أي يوم يومكم هذا ؟» قالوا: يوم النحر, قال: «صدقتم يوم الحج الأكبر».
وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن المقدام, حدثنا يزيد بن زريع, حدثنا ابن عون عن محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: لما كان ذلك اليوم قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعير له وأخذ الناس بخطامه أو زمامه, فقال: «أي يوم هذا ؟» قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه, فقال «أليس هذا يوم الحج الأكبر ؟» وهذا إسناد صحيح وأصله مخرج في الصحيح. وقال أبو الأحوص عن شبيب بن غرقدة عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: «أي يوم هذا ؟» فقالوا: اليوم الحج الأكبر, وعن سعيد بن المسيب أنه قال: يوم الحج الأكبر اليوم الثاني من يوم النحر رواه ابن أبي حاتم, وقال مجاهد أيضاً: يوم الحج الأكبر أيام الحج كلها, وكذا قال أبو عبيد. قال سفيان: يوم الحج ويوم الجمل ويوم صفين أي أيامه كلها, وقال سهل السراج: سئل الحسن البصري عن يوم الحج الأكبر ؟ فقال: ما لكم وللحج الأكبر ذاك عام حج فيه أبو بكر الذي استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج بالناس رواه ابن أبي حاتم, وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا أبو أسامة عن ابن عون, سألت محمداً يعني ابن سيرين عن يوم الحج الأكبر, فقال: كان يوماً وافق فيه حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحج أهل الوبر.

** إِلاّ الّذِينَ عَاهَدتّم مّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمّوَاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىَ مُدّتِهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ
هذا استثناء من ضرب مدة التأجيل بأربعة أشهر لمن له عهد مطلق ليس بمؤقت, فأجله أربعة أشهر يسيح في الأرض يذهب فيها لينجو بنفسه حيث شاء, إلا من له عهد مؤقت فأجله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها, وقد تقدمت الأحاديث ومن كان له عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعهده إلى مدته, وذلك بشرط أن لا ينقض المعاهد عهده ولم يظاهر على المسليمن أحداً أي يمالىء عليهم من سواهم, فهذا الذي يوفي له بذمته وعهده إلى مدته ولهذا حرض تعالى على الوفاء بذلك, فقال {إن الله يحب المتقين} أي الموفين بعهدهم.

** فَإِذَا انسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَآتَوُاْ الزّكَاةَ فَخَلّواْ سَبِيلَهُمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ
اختلف المفسرون في المراد بالأشهر الحرم ههنا ما هي ؟ فذهب ابن جرير إلى أنها المذكورة في قوله تعالى: {منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم} الاَية, قال أبو جعفر الباقر, ولكن قال ابن جرير: آخر الأشهر الحرم في حقهم المحرم, وهذا الذي ذهب إليه حكاه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وإليه ذهب الضحاك أيضاً وفيه نظر, والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس في رواية العوفي عنه, وبه قال مجاهد وعمرو بن شعيب ومحمد بن إسحاق وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أن المراد بها أشهر التسيير الأربعة المنصوص عليها بقوله {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} ثم قال: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم} أي إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم فيها قتالهم وأجلناهم فيها فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر, ثم إن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتي بيان حكمها في آية أخرى بعد في هذه السورة الكريمة. وقوله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} أي من الأرض وهذا عام, والمشهور تخصيصه بتحريم القتال في الحرم, بقوله: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم} وقوله: {وخذوهم} أي وأسروهم إن شئتم قتلاً وإن شئتم أسراً, وقوله: {واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد} أي لا تكتفوا بمجرد وجدانكم لهم, بل اقصدوهم بالحصار في معاقلهم وحصونهم والرصد في طرقهم ومسالكهم حتى تضيقوا عليهم الواسع وتضطروهم إلى القتل أو الإسلام, ولهذا قال: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم} ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة على هذه الاَية الكريمة وأمثالها, حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال وهي الدخول في الإسلام والقيام بأداء واجباته, ونبه بأعلاها على أدناها فإن أشرف أركان الإسلام بعد الشهادتين الصلاة التي هي حق الله عز وجل, وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء والمحاويج وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين, ولهذا كثيراً ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة. وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» الحديث, وقال أبو إسحاق: عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ومن لم يزك فلا صلاة له, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة وقال: يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه!
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق, أنبأنا عبد الله بن المبارك, أنبأنا حميد الطويل عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا وصلوا صلاتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها, لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم» ورواه البخاري في صحيحه وأهل السنن إلا ابن ماجه, من حديث عبد الله بن المبارك به, وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي, حدثنا عبيد الله بن موسى أخبرنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا يشرك به شيئاً فارقها والله عنه راض» قال: وقال أنس: هو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء, وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل, قال الله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} قال: توبتهم خلع الأوثان وعبادة ربهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة, ثم قال في آية أخرى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} ورواه ابن مردويه ورواه محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة له. حدثنا إسحاق بن إبراهيم, أنبأنا حكام بن سلمة, حدثنا أبو جعفر الرازي به سواء, وهذه الاَية الكريمة هي آية السيف التي قال فيها الضحاك بن مزاحم: إنها نسخت كل عهد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أحد من المشركين وكل عقد وكل مدة, وقال العوفي: عن ابن عباس في هذه الاَية لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة منذ نزلت براءة, وانسلاخ الأشهر الحرم ومدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل براءة أربعة أشهر, من يوم أذن ببراءة إلى عشر من أول شهر ربيع الاَخر, وقال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس في هذه الاَية قال: أمره الله تعالى أن يضع السيف فيمن عاهد إن لم يدخلوا في الإسلام, ونقض ما كان سمي لهم من العهد والميثاق, وأذهب الشرط الأول. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري قال: قال سفيان بن عيينة: قال علي بن أبي طالب: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف سيف في المشركين من العرب, قال الله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} هكذا رواه مختصراً, وأظن أن السيف الثاني هو قتال أهل الكتاب لقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاَخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} والسيف الثالث قتال المنافقين في قوله {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين} الاَية, والرابع قتال الباغين في قوله {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} ثم اختلف المفسرون في آية السيف هذه فقال الضحاك والسدي هي منسوخة بقوله تعالى: {فإما مناً بعد وإما فداء} وقال قتادة بالعكس.

** وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّىَ يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَعْلَمُونَ
يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه {وإن أحد من المشركين} الذين أمرتك بقتالهم وأحللت لك استباحة نفوسهم وأموالهم {استجارك} أي استأمنك فأجبه إلى طلبته حتى يسمع كلام الله أي القرآن تقرؤه عليه وتذكر له شيئاً من أمر الدين تقيم به عليه حجة الله {ثم أبلغه مأمنه} أي وهو آمن مستمر الأمان حتى يرجع إلى بلاده وداره ومأمنه {ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} أي إنما شرعنا أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله وتنتشر دعوة الله في عباده.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في تفسير هذه الاَية قال: إنسان يأتيك ليسمع ما تقول وما أنزل عليك فهو آمن حتى يأتيك فتسمعه كلام الله وحتى يبلغ مأمنه حيث جاء, ومن هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الأمان لمن جاءه مسترشداً أو في رسالة, كما جاءه يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش, منهم عروة بن مسعود ومكرز بن حفص وسهيل بن عمرو وغيرهم, واحداً بعد واحد يترددون في القضية بينه وبين المشركين فرأوا من إعظام المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهرهم وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر, فرجعوا إلى قومهم وأخبروهم بذلك, وكان ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم, ولهذا أيضاً لما قدم رسول مسيلمة الكذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أتشهد أن مسيلمة رسول الله ؟ قال نعم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك» وقد قيض الله له ضرب العنق في إمارة ابن مسعود على الكوفة, وكان يقال له ابن النواحة ظهر عنه في زمان ابن مسعود أنه يشهد لمسيلمة بالرسالة, فأرسل إليه ابن مسعود فقال له: إنك الاَن لست في رسالة وأمر به فضربت عنقه لا رحمه الله ولعنه. والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب, وطلب من الإمام أو نائبه أماناً أعطي أماناً ما دام متردداً في دار الإسلام, وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه, لكن قال العلماء لا يجوز أن يمكن من الإقامة في دار الإسلام سنة, ويجوز أن يمكن من إقامة أربعة أشهر, وفيما بين ذلك فيما زاد على أربعة أشهر ونقص عن سنة قولان عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء رحمهم الله.